إلى اللبناني: هاجر

19 يناير 2019
+ الخط -
لو كنتَ لبنانياً لا تبقَ يوماً واحداً في لبنان. قدّم أوراقك إلى سفارةٍ ما وهاجر. لا شيء مستقيماً في هذا البلد. لا يمكنك أن تصدّق أن هناك نيةً لبناء وطن أو مشروع وطن. في حرب المافيات المتناحرة، عليك أن تسعى إلى البقاء على قيد الحياة فقط. جميعهم عصابات وسارقون، يدّعون امتلاكهم الحقيقة، وهم أبعد ما يكون عنها. في لبنان يُمكن لأصغر عاصفةٍ شتائيةٍ أن تكشف فساد البنى التحتية، وعدم معالجة الدولة لها. في لبنان، يُمكن تسخير شبانٍ صغارٍ، وبعضهم عاطل من العمل، لإنزال علم دولةٍ عربيةٍ تحت المطر، ثم القول إنهم "تحرّكوا بصورة عفوية". الشبان عادوا إلى بؤسهم، أما زعيمهم فعاد إلى صفقاته. هنا في هذه البلاد، يعيش الموارنة كل يوم حرباً رئاسية، لا يفكّرون فيها سوى بالقضاء على بعضهم بعضا، واجتماع البطريركية المارونية، يوم الأربعاء الماضي، شاهد على ذلك. في لبنان، لا يمكن للسنّة إلا أن يفكروا بـ"الغبن"، فزعماؤهم باتوا أسرى انتظاراتٍ إقليمية: هل يزورون سورية أم لا؟ أما الدروز، فأمامهم مستقبلٌ يهدّد وحدتهم خلف زعيمٍ واحد، في سياق تعدّد الزعامات. وفي حالة الشيعة، فإنهم وجدوا أنفسهم في طليعة الممسكين بقدرات البلد، من دون معرفة إدارته.
في وسط كل هؤلاء، هناك أب وأم وتلميذ ومريض وشاب وفتاة وعجوز، يبحثون عن شيء ما خارج هذا الإطار. شيء يسمح لهم بالحرية أولاً، وتحقيق ذواتهم ثانياً، وصناعة رحلة خاصة بهم ثالثاً. كل هذا ممنوع في لبنان. كيف يمكن أن تحقق حلماً في هذا البلد، في وقتٍ بدأت فيه مصر والإسرائيليون والسلطة الفلسطينية والأردن واليونان وإيطاليا وقبرص عصراً جديداً من ضخّ الغاز إلى أوروبا من شرق المتوسط، فيما لبنان ينحو جانباً وكأن الأمر لا يعنيه؟ كيف يمكن أن ينتصر الإنسان في لبنان، ما دامت التصنيفات الطائفية أقوى من كيانك الخاص؟
لو كنتَ لبنانياً لا يمكنك أن تبقى يوماً واحداً في هذا البلد. لن يصطلح شيء. المنتمي إلى محاور إقليمية سيبقى منتمياً إليها، وبعناوين شتّى، أساسها مذهبي وطائفي. أما المتغلغل في شبكة الفساد، فمن الطبيعي أن يقاتل من أجل ديمومتها. أصلاً لا أحد يفكّر بمحاربة الفساد. هل تعتقدون أن البلاد سياحية؟ بالطبع لا، فكل ما حولك دليلٌ على سوء إدارتها، وسرقتها، والتمعّن في ضرب ما تبقى من جمالها، سواء بتدمير المعالم الأثرية في بيروت، أو بنهش الجبال في أماكن عدة.
لا تفكّر كثيراً. اذهب إلى أقرب سفارة، اسعَ إلى توضيب الحقائب وهاجر، من دون أن تتطلّع إلى الوراء. أما إن شئت البقاء، فاعلم أنك لن تستطيع فعل شيءٍ محدّد ولا تغيير شيء. كل ما ستفعله يومياً هو محاولة كسب يوم إضافي. لن يفعل لك زعيمك أو حزبك شيئاً. هؤلاء يقومون بما يجيدونه: "استغلالك بأكثر طريقة ممكنة"، ثم التزيين لك بأن ما تفعله هو "في سبيل الوطن"، بينما في الواقع تقوم بخدمتهم باعتبارك رقماً في بورصتهم، وبورصة المحاور التي ينتمون إليها. لا تعتقد يوماً أنهم يبالون بك. حسناً، يريدونك أن تموت عنهم، عبر جعل معركتهم الخاصة معركةً خاصة لك. وهو ما يفسرّ موت جنود عديدين وقلّة من القادة عبر التاريخ.
حين تخرج من منزلك، تدرك أنك في بلدٍ منكوب، ينتظر من يعلن موته، وتعلم أن فشل القمة العربية الاقتصادية وملفات النفايات والكهرباء والأشغال والطبابة ومكافحة الفساد جزء من حالة يرغب زعماء المافيات بتكريسها، بعنوان "أميركا تحاربنا". كالعادة يرمون كل شيءٍ على خارج لا يأبه بهم، فقط للسيطرة على عقول من يتماهون معهم. لا تفكّر كثيراً. انظر إلى وجوه أطفالك. دعهم يعيشون مستقبلاً أفضل من ماضينا وحاضرنا. اجعلهم يفتخرون بك خارج لبنان لا داخله. هاجر.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".