إسماعيل فيتو في الحلبة

03 مايو 2017
مقطع من عمل لـ بطرس المعري/ سورية
+ الخط -

كان في مدينة " عامودا " شخص ضخم الجثة متين البنية يدعى "إسماعيل فيتو" قد ذاع صيته في تلك الأنحاء كرجل لا يمكن التغلب عليه في قتال الشوارع على طريقة العتالين، ذلك أنه وعلى كثرة مشاكله لم يهزم مرة واحدة في حياته وكان مشفى عامودا الوطني الممتلئ بخصومه شاهداً على ذلك.

وحدث أن جاءت إلى عامودا ذات يوم فرق ملاكمة من مختلف أنحاء الوطن في إطار بطولة للألعاب الفردية، وكان من ضمنها بالطبع الفريق الشامي المعروف باسم "المنتخب" والذي كان لاعبه الرئيسي شاباً قصير القامة ناعم البنية ومع أنه كان يبدو أنثوياً في الظاهر، إلا أنه كان خفيف الحركة قوي الشكيمة ومتمرساً في ضرب البوكس، وكانت شهرته قد طبقت الآفاق، ولكن أهل عامودا بسبب بعدهم عن العاصمة لم يكونوا قد سمعوا به.

في تلك الأيام كانت تظاهرة كهذه كافية لإشاعة النشاط في عامودا بأسرها، فكنت ترى الشباب والشيوخ، بل حتى النساء والأطفال جميعاً، يذهبون للفرجة ليقضوا بعد ذلك لياليهم في الحديث والتندر.

المهم، بدأت جولات الملاكمة وبدأ خصوم الملاكم الشامي يتساقطون أمامه الواحد تلو الآخر كذباب دهمه برد الشتاء حتى كادت البطولة أن تنتهي دون أن يهزمه أحد.

أوصل بعض الخبثاء الخبر بسرعة إلى إسماعيل فيتو وعقدوا معه في الحال اجتماعاً مغلقاً أقنعوه في نهايته بالذهاب معهم إلى الحلبة وتسجيل اسمه في فريق عامودا الوطني من أجل لقاء هذا الشامي الذي أذل جميع خصومه بالضربة القاضية.

رفض إسماعيل في البداية قائلاً: "كار مو كارك يخرب ديارك" يا جماعة أنا شو فهّمني بالملاكمة.

فقالوا له: فقط تعال معنا وتفرّج عليهم وبعدها احكم، يا رجل، البطل فيهم ليس كفخذة من أفخاذك.

وبالفعل توصلوا إلى إقناعه أخيراً ومضى معهم إسماعيل إلى الحلبة وتفرج وهو جالس في مقاعد المتفرجين على جولة من جولات الملاكم الشامي. وبعد أن أجال النظر بدقة في هيئة غريمه وشاهد طوله وعرضه وعاين حركاته البهلوانية المضحكة صفق كفاً بكف وهو يقول: اتركوني عليه.

استبشر العاموديون خيراً ببطلهم وسجلوا اسمه في الحال لدى اللجنة وتم الاتفاق على أن تكون المباراة الحاسمة في صباح الغد.

في السهرة، أقسم إسماعيل فيتو أمام جميع الشباب أنه سيجعل هذا الشامي يتقيأ الدم ووعد أنه لن ينزل من الحلبة غداً إلا بعد أن يفك لحام وجهه ويهرّ له طقم أسنانه جميعها ويرسله محمولاً إلى أحد مشافي أو مقابر دمشق.

وفي اليوم الموعود، صعد إسماعيل الحلبة مبتسماً وسلم بود وحرارة على خصمه (كان الشباب قد علموه كيف يتصرف) قبل أن تنطلق إشارة الحكم ببدء الجولة الأولى.

جهز إسماعيل نفسه فجمع قبضتيه وأخذ يهز برأسه وينفخ بأنفه كالثور الهائج ثم هجم على خصمه كأنه يريد أن يبتلعه فتنحى الشامي جانباً تاركاً إسماعيل يصطدم بالحبال وبقي الشامي على حاله يحدّق في عينيّ إسماعيل ويتحرك بحركات بهلوانية مدروسة لم تكن تنذر بأي خطر. عاود إسماعيل هجومه الفاشل مرة ثانية، ومرة ثانية اصطدم بالحبال ففقد توازنه هذه المرة وما إن وقف على قدميه حتى كانت قبضة الملاكم الشامي بانتظاره.

لقد أكل إسماعيل في الجولة الأولى فقط من ضرب البوكس ما يعادل جميع الضرب الذي أكله طوال عمره وأخيراً انطرح على الأرض وهو يشخب دماً ولا يكاد يقوى حتى على الوقوف. وبعد أن انطلقت صافرة الحكم بإعلان هزيمته، تعاون خصمه وحكم المباراة معاً على إيقافه على قدميه.

في الليلة نفسها وكان إسماعيل غاطسا في لفائف الشاش والجبصين الطبي، اجتمع به الشباب على السهرة وأخذوا يتغامزون عليه: ما هذا يا إسماعيل لقد نكست عقالنا وسوّدت وجوهنا، لقد كنا نظن أنك تطرحه من أول بوكس مثل "محمد علي كلاوي".

فتح إسماعيل فمه بصعوبة من خلف قطع الشاش. أجال نظره في الحضور ثم لثغ من خلال أسنانه المكسورة: أنتم تعرفون يا شباب أنني أقوى من كلاوي وأبو كلاوي ولكن ملعون الوالدين غافلني من الخلف وما أعطاني مجال.

ثم اعتدل في جلسته وأردف وهو ما يزال يتأوه: صحيح هو غلبني ولكن أنا ما تركت حقي.
- ما تركت حقك، كيف؟!
- لما خلصت المباراة وسلمت عليه بصقت في وجهه بصقة بتسوى حياته!


* كاتب سوري كردي

المساهمون