أيها اللبنانيون.. اسألوا

17 سبتمبر 2018
+ الخط -
الماضي في المفهوم الشرق أوسطي هو تجميد الزمن عند محطّة معينة، وعدم تطوّره، لا بل البناء عليها بأبشع الصور الممكنة، لديمومة مجتمعٍ سلبي، متحفّز لتكرار ما أنجب أساساً تلك المحطة. في لبنان مثلاً، لم يخرج شعبه بعد من ماضيه الدموي الانقسامي، خصوصاً زمن الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990). لا يمكن فهم كيفية تحوّل أطفالٍ، وُلدوا عام 2000 مثلاً، إلى متحدّثين، و"بثقة"، عن محطات الحرب اللبنانية، ورسم السيناريوهات المتناقلة عبر أهلهم وأحزابهم وسياسييهم، على قاعدة "نحن المحقين". لا يمكن فهم أن مثل هؤلاء، المفترض بهم أن يكونوا "قادة المستقبل"، يتحوّلون سريعاً إلى دمى مرمية في دياجير الحرب اللبنانية ومتاهاتها.
لا، ليس كل ما يقال صحيحاً، ولم يكن أي فريق محقا بما فعله في حرب لبنان. ساهم الجميع في تدمير البلاد، وإذا كانت فئة تصرّفت على قاعدة "فعل"، فهذا لا يبرّر "ردّ الفعل" لاحقاً. أدّى تواتر ردود الفعل إلى ترسيخ فكرة جمود البلاد وشعبها في محطّات معينة. هل تكفي المصالحة أو المصارحة للخروج من الدائرة المظلمة؟ طبعاً لا يكفي ذلك، من دون ممارسة فعلية، وتنفيذ لخطاب توعوي، يسمح بوضع مشكلات الزمن الحالي أساسا للمعالجة، بدلاً من ركوب أول طائرة إلى الماضي، للذهاب إليه والمكوث لديه.
أحياناً، نظنّ أن كل الشعوب متشابهة في مكان ما، بتاريخها وماضيها، إلا الشعوب الشرق أوسطية، تبدو، وسط يأسها من معالجة مشكلات الأيام الحالية، من اجتماعية وحقوقية واقتصادية وسياسية، "مضطرّة" إلى العودة إلى الماضي، الذي لا يستفيد منه سوى من كان قائداً لمليشيا فيها، لأنه، في هذا الحالة، سيؤمن ديمومته السياسية، في وقتٍ يُفترض فيه أن يكون أمثاله في السجون، لمساهمته في تدمير لبنان. حقاً، يمكن لأي مواطنٍ لبناني، أن يفكّر قليلاً، ويسأل "ماذا سأجني إذا قرّرت التمسّك بصفحاتٍ سوداوية من حربنا اللبنانية، حتى آخر نفسٍ من عمري؟". عملياً؟ لا شيء. لن تجني شيئاً سوى توريث أولادك الأفكار السلبية، والسماح بتحوّلهم إلى بيادق بيد أمراء هذه الحرب، كما تحوّلت أنت.
صحيحٌ أن بلادا عدة شهدت حروباً أهلية، وحتى مجازر، لكنها خرجت منها بعد المصالحة الجماعية. المستقبل أهم من الماضي، على الرغم من ألم الماضي ووجعه. المستقبل ركيزة للتفكير في صنع الذات، قبل صنع المجتمع. لا يمكنك، وأنت تحمل بيدك هاتفاً، وتتواصل مع الكرة الأرضية، أن تعود، بكل ما لديك من سعة فكرية وإمكانات لم تكن متوفّرة لأهلك، إلى متراسٍ ضيّق بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية. لا تنسَ أنك تسهر دائماً في تلك الأمكنة مع "رفاقٍ" لك، كانوا لا يخرجون من الملاجئ في البيروتتين.
لا تدرك الأكثرية اللبنانية أن خلافات الزعماء السياسيين جزء من اللعبة فيما بينهم. اعتاد هؤلاء على تقاسم السلطة والمحاصصة، ولن يخرجوا منها. كيف يمكن إقناع من كان ينتفع من الحرب وويلاتها أن يبني وطناً لن يجد نفسه زعيماً فيه؟ بالطبع، سيُحارب وأنصاره من أجل ترسيخ فكرة "البطولات الوهمية في حرب لبنان". جميعنا خسر الحرب، وحتى من ظنّ أنه خسر وحده أو ربح وحده، فقد خسر. اسألوا أحزمة البؤس في بيروت وطرابلس وصيدا. اسألوا من يقف على باب المستشفيات ذليلاً خائفاً. اسألوا أهل التلاميذ الذين يئنّون تحت أقساط المدارس اللاهبة. اسألوا المرضى والأرامل والأيتام والمعوّقين. اسألوا جيرانكم وأقرباءكم. الجميع يعاني. لا أحد قادرٌ على مواجهة حقيقة أن "المستقبل أهم من الماضي"، لخوفه منها. لا تخافوا من النظر إلى المرآة، وسؤال أنفسكم "إلى متى سأبقى أسير حقدٍ لم أصنعه، ولم أُشارك في صنعه، بل وصل إليّ، وكُلّفت بالتحوّل إلى دمية جديدة؟". ابحثوا في ذواتكم وستجدون الأجوبة. مستقبلكم، ومستقبلنا ومستقبل لبنان لا يسكنون في حربٍ أهليةٍ مضت، ولن تعود.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".