أوباما يخون أبراهام لينكولن
بدا الرئيس الأميركي، باراك أوباما، صغيراً وهو، يسير وراء البروباغاندا الإسرائيلية ودعايتها، عندما دان أسر المقاومة الفلسطينية جندياً إسرائيلياً، واصفا العملية بـ "الهمجية"، ومطالباً بإطلاق ذلك الجندي "فورا وبدون شروط"، فيما اعتقل الجندي الغازي على أرض المعركة، وفي أثناء هجوم داخل أرض تحتلها دولته! وحتى عندما عادت الدعاية الإسرائيلية، وصححت كذبتها التي اتخذتها ذريعة لخرق هدنة هشة، وقتل مزيد من الأبرياء، ابتلع أوباما لسانه.
ليست هذه أول سقطة أخلاقية لرئيس أكبر قوة عسكرية في العالم، ولن تكون الأخيرة. فمنذ شنت إسرائيل عدوانها الهمجي على غزة المحاصرة، وإدارة أوباما تبحث لها، كل يوم، عن الذرائع لقتل مزيد من الفلسطينيين. في البداية، حمّلت حركة حماس عملية الاختطاف والقتل الغامض لمستوطنين ثلاثة، اتخذتها إسرائيل ذريعة لشن حملتها العدوانية ضد غزة. ومع كل مجزرة يذهب ضحيتها مئات الأبرياء، يخرج الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، ليبررها بـاسم "الحق الشرعي" لإسرائيل المحتلة في الدفاع عن نفسها!
أصبح من السهل، وحتى قبل أن تنتهي الولاية الثانية لأوباما عام 2016، الحكم على سياسته تجاه قضية معقدة، يتداخل فيها التاريخي والديني والسياسي، مثل القضية الفلسطينية. فالرئيس الذي حمل مع دخوله إلى البيت الأبيض، قبل ستة أعوام، آمالاً وأحلاماً مدمرة، لتحقيق السلم والعدل في العالم، ينهي ولايته الثانية عاجزاً أمام حروب عبثية مدمرة في سورية والعراق وأفغانستان واليمن وأوكرانيا وفلسطين.
كل هذه الحروب التي يذهب ضحيتها يومياً مئات الأبرياء، كان يمكن أن يكون لضحاياها مآل آخر، لولا حالة العجز التي طبعت السياسة الخارجية الأميركية في عهد رئيسها الحالي. وما زلنا نتذكر كيف جرى تشبيه أوباما، عند تنصيبه في بدء ولايته الأولى، بالرئيس الأميركي الأسبق، أبراهام لينكولن، موحد أميركا ومحرر عبيدها. كما أن أوباما نفسه طالما ردد أن لينكولن مصدر وحي كبير له. وقبل أيام، ذكّرتنا صحيفة "واشنطن بوست" بتلك المقارنة التي باتت فارقة بين أوباما ولينكولن، وهذه المرة على ضوء المأساة الإنسانية في غزة. فقد كتبت أن لينكولن كان يكره الحرب بقدر ما يكرهها اليوم أوباما. ولكن، خاض لينكولن الحرب من أجل السلم والعدل والتحرر، بينما وقف أوباما عاجزاً، لا بل منحازاً إلى الظلم، أمام التراجيديا الإنسانية المستمرة والمتكررة في فلسطين. فهذا ثالث عدوان إسرائيلي تشهده غزة منذ عام 2008 الذي انتخب فيه أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. وعند المقارنة، اليوم، بين أوباما ولينكولن، يبدو طرح السؤال الافتراضي من قبيل: ماذا كان لينكولن ليفعل اليوم؟ مجرد ضرب من الخيال.
كان لافتاً لهواة هذه المقارنة بين لينكولن وأوباما، إغفال الأخير، في خطبه واستشهاداته، المقطع الأكثر تكراراً في الاقتباسات المنسوبة للينكولن، عن وجود "خيرة الملائكة في طبيعتنا البشرية". واليوم، ندرك أن أوباما الذي سحرنا إلى حد الخداع، بقدرته الخطابية، لم يكن ملاكا، وإنما مجرد موظف آخر سام في "الإستبلشمنت" الأميركية التي تتحكم فيها اللوبيات القوية، وفي مقدمتها اللوبي الصهيوني.
ففي أثناء حملته الانتخابية عام 2008، قدم أوباما نفسه للأميركيين وللعالم محرراً جديداً سيسير على خطى نموذجه لينكولن، محرر عبيد أميركا، من حيث استخدام القوة العسكرية والحسم الحربي. لكن أوباما الذي لم يزج ببلاده في أي حرب جديدة، قتل مئات الأبرياء بالطائرات الأميركية بدون طيار في أفغانستان وباكستان واليمن. ووقف، وهو حامل "جائزة نوبل للسلام" عاجزاً أمام مقتل عشرات المدنيين الأبرياء بغاز السارين في غوطة دمشق في سورية، هو نفسه الذي أمر بفتح مخازن جيشه للجيش الإسرائيلي لقتل الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء في غزة!
دفع لينكولن حياته، من أجل القضاء على نظام الرق في بلاده، فيما تردد أوباما، في كل مرة وجد نفسه أمام لحظة تاريخية فارقة، خوفاً من تدني شعبيته، في أن يتخذ أي موقف شجاع قد يحسب له غداً إنجازاً تاريخياً. حدث ذلك عندما كان مطلوباً منه ردع نظام بشار الأسد في سورية، للكف عن إبادة شعبه، وتكرر ذلك عندما كان في وسع أميركا لجم غطرسة الدب الروسي، للعبث بوحدة أوكرانيا واستقرارها. ويتكرر، اليوم، مع الموقف اللاأخلاقي بمد جيش العدوان الإسرائيلي بالدعم المادي والسياسي، لتقتيل مزيد من الأبرياء الفلسطينيين. من دون الحديث عن مواقفه السياسية، المتذبذبة باستمرار تجاه الانقلاب على رئيس منتخب شرعياً في مصر، والوضع المشتعل في العراق الذي ينذر بفتح أبواب جهنم من بلاد الرافدين!
ثمة فرق كبير بين أوباما، صاحب كتاب "جرأة الأمل"، عندما وقف في جامعة القاهرة عام 2009، ماداً يده إلى العرب والمسلمين، وداعياً إلى الحوار والسلم، وأوباما الذي يقف، اليوم، خلف جنرالات جرائم الحرب في إسرائيل. نشهد، اليوم، آخر سقوط أخلاقي مدوٍ للرئيس الذي دخل التاريخ بفضل لون بشرته السمراء، ويودعه، اليوم، إثر بقع الدم الأحمر القاني التي ستلطخ يديه وإلى الأبد. إنه لون دم الأطفال والنساء والأبرياء الفلسطينيين الذين يقتلون بسلاح أميركي، وتحت غطاء سياسي أميركي، وحده اليوم أوباما مسؤول عن تبعاته.