أمجد ناصر وكازنتزاكي... عبور وأثر

18 نوفمبر 2019

(إميل منعم)

+ الخط -
ألا نتوقف عن الكتابة عن أمجد ناصر؟ ربما ليس هذا في مقدورنا، ولو حاولنا، على الأقل في المدى المنظور. فكما دأب الناس على ذكر مناقب الراحلين عن دنيانا من عباقرة الإبداع الإنساني، ما فتئت المقالات والتحليلات والانطباعات تتوالى عن فقيد ديوان العرب، أمجد ناصر، الذي رُزئنا فيه أخيرا، كما رُزئت فيه الساحة الثقافية العربية، ولمَ لا الدولية. 
منذ إعلان وفاته والمقالات تتوالى، هنا وهناك، عن الشاعر الأردني أمجد ناصر، في الصحف، الورقيّ منها والإلكتروني، وفي وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّاته؛ من القراء والأصدقاء والمهتمّين ومتذوقي الشعر والأدب. وكأن لكل واحد منا شيئا لأمجد يجب أن يتركه له، وإن كان حضوره قد صار رمزيا بعدما فجعنا فيه الموت؛ حضور يتمنّاه كل كاتب. فكما يقول مسكويه في كتابه "الروح" إن الجسد يهون ويتحلل مع الوقت، ولكنّ الروح أزلية.
إلى جانب الشعر الذي أبدع فيه إلى حدّ أنه بات يصنّف رائدا في الحداثة الشعرية، بفضل عطائه المتفرد في قصيدة النثر على وجه الخصوص، أبدع أمجد ناصر في نوع آخر من الكتابة، هو أدب الرحلة. من أهمّ مميزات كتاباته في هذا الجنس الأدبي أنها تحفل بالمرجعيات. كتب الرحلة بإحساس بالمسؤولية، ولا يسلّم نفسه لانثيالات التداعي الحر ولذته، بل كان يكتب الرحلة وكأنما يكتب بحثاً، تماماً كما كان يفعل محمود درويش حين يكتب قصيدته، والذي قال في حوار إنه يقرأ كثيراً في موضوع القصيدة، ويتّضح ذلك بقوة في استعانته بالأسطورة والرموز والأماكن. ومثل درويش وهو يبدع في كتابة القصيدة، أبدع أمجد ناصر في خطّ رحلاته التي نجد في كل واحدة منها إحالاتٍ عديدة وغنية، تذكّرنا بقوة بمذكرات كازنتزاكي، المليئة بالرموز والتأملات.
ولعل نظرة سريعة على "رحلة" هذا الشاعر والأديب الاستثنائي ضرورية للوقوف على ملابسات إجادته أدب الرحلة وحيثياتها. فقد كانت حياته ما يشبه رحلة لا نهائية من هذه المدينة إلى تلك ومن هذا البلد إلى ذاك. فبعد الرمثا، حيث وُلد، والمفرق حيث شبّ، حطّ الرحال، وهو في بدايات حياته وترحاله، بعمان، قبل أن يتنقل إلى بيروت منخرطا في الثورة الفلسطينية ومشتغلا في صحافتها. ومن هناك إلى قبرص، ثم إلى بريطانيا، حيث استقر في لندن.
وكما عاش رحّالة يتنقّل من مدينة إلى أخرى، ومن هذا البلد إلى ذاك، بل من هذه القارة إلى تلك، تعدّدت مشاهداته وتجاربه ومعايناته، فكان طبيعيا أن يعكس ذلك بعض إنتاجاته القيّمة في أدب الرحلة، ومنها خصوصا عملاه المتميزان "خبط الأجنحة" و"في بلاد ماركيز". وإذا كان "خبط الأجنحة"، كما قال صبري حافظ، سجّل تجربةً طويلة مع الغربة وسجل تجربة خبط أجنحة الشاعر في فضاء التحوّلات، العربية والذاتية معا، والتّحوّل من فضاء الغربة الجغرافية إلى مفازة الغربة المعرفية؛ فقد نهج في "رحلته" الثانية (في بلاد ماركيز) خُطا أدب الرحلات المتعارَف عليه في الموروث العربي القديم والآداب العالمية، لكنْ من دون أن يمنع ذلك أمجد ناصر، بشاعريته وفطنته وتركيبته، المشبَعة بالحنين وحبّ السفر والتفاعل مع ثقافات الآخرين، من أن يبرع في الوصف، وفي القبض على التفاصيل الدقيقة في حياة الناس اليومية. وغذّى ناصر ذلك كله بثقافته التنويرية التي متحت من خلاصات بحثٍ دائمٍ في معارف وآداب وفنون وثقافات وحضارات مختلفة الأصول والأنساب والمرجعيات.
يبرع ناصر في التقاط حالات التماثل بين الثقافتين، العربية واللاتينية، عاقداً مقارنة بين عوالمها ومعاييرها في كلتا الثقافتين، ليصحب قارئه في "رحلة" إلى العوالم العجيبة لغارسيا ماركيز. كانت هذه محاولة متواضعة لردّ بعض الجميل لهذا الأديب العابر للقارات، وأيضا لحدود الأجناس الأدبية، ليبدع في الشعر كما في الرواية وفي الرحلة. فلم يكن مستغرَبا ولا اعتباطيا أن تُترجم أعماله إلى أهم لغات العالم (الإنكليزية، الإسبانية، الفرنسية، الألمانية والإيطالية والهولندية وغيرها)، ولا كان مجانيا أو ارتجالا أن ينال، خلال مسيرته التي امتدّت زهاء أربعين سنة، جوائز وتكريمات كثيرة.
وداعاً أمجد، وداعاً صانعَ أمجاد قصيدة النثر، وقس على ذلك روايةً ومقالا ورحلة. وداعاً يا أفضل من جاؤوا من الضّفاف الأخرى وتمركزوا في قلاعٍ تُشرفُ على طرق بريد قلوبنا جميعاً.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي