أرمينيا وأذربيجان... أخطر تصعيد منذ ربيع 2016

18 يوليو 2020
اندلعت الاشتباكات بعيداً عن ناغورني قره باخ (عزيز كاريموف/Getty)
+ الخط -

في أخطر تصعيد منذ ربيع 2016، تبادلت أرمينيا وأذربيجان التهديدات باستهداف مواقع استراتيجية حساسة في البلدين، الداخلين في حالة حرب منذ تسعينيات القرن الماضي. وبعد هدنة هشة تجدد القصف الخميس الماضي على المناطق الحدودية الشمالية بين البلدين، على مقربة من خطوط نقل رئيسة للنفط والغاز من منطقة بحر قزوين إلى تركيا وجنوب أوروبا. وفي حين تتواصل الضغوط الداخلية على الحكومة الأذربيجانية للردّ بقوة بعد مقتل 11 عسكرياً، بينهم جنرال وكولونيل بالإضافة إلى مدني، برز إلى العلن تباين كبير في مواقف تركيا وروسيا، ما يزيد حجم الملفات الخلافية بين البلدين المصطفين في خنادق متقابلة في ليبيا وسورية وأوكرانيا.
وبدأت الموجة الجديدة من القتال يوم الأحد الماضي، وتبادل الطرفان الاتهامات بخرق وقف إطلاق النار وافتعال التصعيد. وذكرت يريفان أن سيارة عسكرية أذربيجانية تقدمت نحو مواقع لجنود أرمن أطلقوا عيارات تحذيرية، خرج بعدها الطاقم الأذربيجاني من السيارة وعاد أدراجه نحو الجهة الثانية من الحدود، وبعد ساعة استهدفت المدفعية الأذربيجانية الأراضي الأرمنية. وفي المقابل، تؤكد باكو أن الجانب الأرمني هو من بدأ القصف المدفعي بطريقة "خشنة ومن دون أي سبب" في خرق لنظام وقف إطلاق النار. ويمثل التصعيد الحالي أول اختبار جدي لقدرة رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، الذي صعد إلى الحكم بعد ثورة مخملية في 2018، في السيطرة على الجيش والدخول في مفاوضات أكثر جدية لحل النزاع المتواصل منذ 30 سنة بسبب إقليم ناغورني قره باخ.

هددت أذربيجان باستهداف محطة ميتسامور الكهروذرية الأرمنية

 

ويعدّ إقليم ناغورني قره باخ مثالاً واضحاً على المشكلات التي تسبب بها انهيار الاتحاد السوفييتي. ففي بداية القرن التاسع عشر، كان الإقليم في عداد الإمبراطورية الروسية بعد هزيمة الفرس، وقد منح الإقليم، ذو الغالبية السكانية الأرمنية، حكماً ذاتيا في العهد السوفييتي، منذ العام 1923، لكن في إطار جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفييتية. ومع بروز بوادر تفكك الحكم الشيوعي، قرر مجلسا نواب الشعب (البرلمان) في أرمينيا وناغورني قره باخ توحيد الإقليم مع أرمينيا في 1988، وهو ما رفضته أذربيجان التي ألغت الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به، وأرسلت لاحقاً جيشها، ما أدى إلى اندلاع حرب استمرت من 1992 إلى 1994، وتسببت في فقدان أذربيجان الإقليم، بالإضافة إلى خسارة سبع مناطق محاذية له تبلغ مساحتها نحو خُمس أراضيها وتشريد نحو مليون أذري من المناطق المحتلة إلى أماكن أخرى في أذربيجان. ورغم توقيع اتفاق بشكيك، الذي وضع حداً للحرب، برعاية مجموعة مينسك بقيادة كل من فرنسا والولايات المتحدة وروسيا، فإن المعارك لم تتوقف، كما لم تنفذ أرمينيا ثلاثة قرارات أممية بشأن الانسحاب من المناطق التي احتلتها في أذربيجان.

ويشير الدكتور في العلوم السياسية رولاند بيجاموف إلى صعوبة حل النزاع الذي بدأ منذ 1988، منذ قرار برلمان الإقليم الانفصال عن أذربيجان. ويوضح، في اتصال مع "العربي الجديد"، أن "الصعوبة تكمن في وجود تناقض بين مبدأين في القانون الدولي، الأول عن حق الشعوب في تقرير مصيرها والثاني عن وحدة وسلامة أراضي الدول وضمان عدم تجاوز حدودها. ومعروف أن الحدود بين جمهوريات الاتحاد السوفييتي لم تكن تعني الكثير، ولكن بعد انهياره وبروز رغبة لدى بعض الشعوب بالاستقلال في دول منفصلة برزت المشكلات، كما حدث في حالة ناغورني قره باخ".
وينذر اندلاع الاشتباكات، بعيداً عن المناطق المحتلة والإقليم المتنازع عليه، بتوسع رقعة الحرب بين البلدين، خصوصاً أن ترسيم الحدود لم ينجز بسبب الصراع الذي بدأ فور تفكك الاتحاد السوفييتي. وفي سابقة منذ 1994، هددت أرمينيا باستهداف سد ميغاجيفرسك المشيد على نهر كور في العام 1950. ويؤمن السد الكهرباء لمناطق واسعة في أذربيجان، ويوفر المياه اللازمة للزراعة، ويمكن أن يتسبب انهياره بإغراق مساحات شاسعة من البلد وانقطاع الكهرباء عن آلاف التجمعات السكانية في أذربيجان، بينها مدن كبرى.

يقلل خبراء من إمكانية شنّ أذربيجان عملية عسكرية واسعة، نظراً لأن أرمينيا عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي

 

ورداً على احتمال توجيه أي ضربة للبنية التحتية في بلاده، قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأذربيجانية العقيد واقف دارغانخلي "على الجانب الأرمني ألا ينسى أن أحدث الأنظمة الصاروخية المتوفرة لدى جيشنا قادرة على ضرب محطة ميتسامور للطاقة الذرية بدقة عالية، ما قد يتسبب في مأساة كبيرة لأرمينيا"، معتبراً أن "تضاريس الموقع الذي بني عليه السد، وأعمال تقوية الأساسات، وأجهزة الدفاع الجوي المتطورة، لا يمكن أن تسمح بتوجيه ضربة لهذا الموقع الاستراتيجي". وشيدت محطة ميتسامور الكهروذرية في العام 1979، لكنها أوقفت عن العمل في 1989 بعد تضررها بفعل الزلزال الكبير الذي ضرب أرمينيا في العام ذاته، وأعيد افتتاحها في 1995 بمساعدة الخبراء الروس. وتزود المحطة أرمينيا بنحو ثُلث حاجتها من الطاقة الكهربائية. وفي وقت لاحق، نفى الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الأرمنية أرتسيرون أفانسيان صدور تصريحات عن أي طرف رسمي في بلاده تتحدث عن ضربات للبنية التحتية في أذربيجان، معتبراً أن التهديدات الأذربيجانية باستهداف المحطة الكهروذرية تعد جريمة.
وتكشف ردود الفعل الغاضبة في العاصمة الأذرية باكو، واقتحام مبنى البرلمان من قبل محتجين يطالبون بالثأر وشن عملية واسعة، عن الضغوط الكبيرة التي تواجهها النخب الحاكمة في أذربيجان. وفي المقابل يبدو أن باشينيان لا يستطيع السيطرة على قرار الجيش، كما لا يستطيع تقديم تنازلات في موضوع ينظر إليه الشعب الأرمني على أنه "قضية وجودية". وفي المقابل فإن الأوضاع الصعبة التي تعيشها أرمينيا في ظل أزمة ديمغرافية حادة، وهبوط مستوى المعيشة وتراجع الاقتصاد، الضعيف أصلاً، بعد انتشار فيروس كورونا، ربما تكون ملجأ للنخب الحاكمة في تحويل الانتباه إلى العدو الخارجي لتجنب الاضطرابات الداخلية. وذات الأمر قد ينطبق على أذربيجان بعد تراجع الدخل من النفط والغاز كثيراً منذ بداية العام الحالي، وهبوط أعداد السياح إلى أقل من 40 في المائة في النصف الأول من العام الحالي، مقارنة بالفترة ذاتها في 2019، رغم أن الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف أكد، في تصريحات بداية الشهر الحالي، أن الأوضاع الاقتصادية جيدة، وأن بلاده، التي بنت موازنتها على 55 دولاراً للبرميل، تستطيع الوفاء بجميع التزاماتها الاجتماعية حتى لو تراجع سعر البرميل إلى 14 دولاراً.

ورغم أن ميزان القوى العسكري يرجح بقوة لصالح أذربيجان، التي طورت جيشها واقتنت أسلحة حديثة من روسيا وتركيا وإسرائيل، مستغلة طفرة ارتفاع أسعار النفط في العقدين الأخيرين، يقلل خبراء من إمكانية شنّ أذربيجان عملية عسكرية واسعة، نظراً لأن أرمينيا عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي أسستها روسيا في 2002 (حلف سياسي عسكري يضم روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان). وبمقتضى المعاهدة، تجب مساعدة أي دولة تتعرض لاعتداء خارجي. وحتى الآن، فقد دعت المنظمة إلى ضبط النفس، فيما لم تطلب أرمينيا المساعدة، نظراً لأن حجم العمليات العسكرية ليس كبيراً ولا يشكل خطراً كبيراً، حسب مسؤولين في يريفان.
وتستضيف أرمينيا القاعدة العسكرية الروسية الوحيدة في جنوب القوقاز، ما يشكل ضمانة، حسب خبراء، لمنع هجوم أذربيجاني واسع. وعلى عكس تحركها السريع في 2016، وايفاد مسؤولين رفيعي المستوى للوساطة بين البلدين، اكتفت روسيا ببيان عن وزارة الخارجية دعت فيه إلى ضبط النفس، وأعربت عن استعدادها للوساطة بين الطرفين لإعادة الاستقرار، وأجرت لقاءات مع سفيري البلدين لديها لمناقشة الأوضاع. وفي المقابل، أعربت تركيا عن دعمها بقوة لأذربيجان. وأكد الرئيس رجب طيب أردوغان أن أنقرة لن تترد في "التصدي للهجوم على حقوق وأراضي أذربيجان". ولاحقاً، قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إن "القوات المسلحة مستعدة لمساعدة أذربيجان من مبدأ شعب واحد في بلدين".
وبعد فشل الهدنة والانتقال إلى تهديدات باستهداف البنى التحتية الاستراتيجية في البلدين، فإنه من المرجح أن تكثف موسكو جهودها من أجل تطويق الخلاف والمحافظة على الاستقرار في "حديقتها الخلفية". ورغم عدم تطابق المصالح والمواقف بين روسيا وتركيا في الأزمة الحالية، يرجح بيجاموف أن يتوصل الطرفان، عبر اتصال على أعلى المستويات بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين وأردوغان، إلى حلول تضمن عدم حدوث صدام مباشر بينهما في تكرار لتجربة ليبيا وسورية، مشدداً على أن "روسيا لن تغامر بعلاقاتها مع أذربيجان وتركيا وتذهب إلى حرب مفتوحة معهما دفاعاً عن أرمينيا، وفي الوقت ذاته ستواصل دورها السابق لمنع التصعيد. وقد تكثف جهودها للبحث عن حل يضمن الاستقرار ويثبت مواقعها في هذه المنطقة الحيوية".