"مُتلازمة" كورونا

12 ابريل 2020
+ الخط -
منذ تسع عشرة سنة خلت، إبان فورات الوعي المبكرة، بدأت أحب والدتي بشكل مضاعف. كونها أمي بادئ الأمر. ولأنها أيضا جنّدت كل صباحاتها المبكرة حتى تحضر لي نوع الخبز الرطب بالدقيق الممتاز والحليب المسمى بالعامية "الحرشة"، بدل ذلك النوع العادي المسمى "الكْرُونْ". والذي لطالما كرهته، تبرمت مُتبرئا منه. كُنتُ أعتقد بأن مجرد تناوله على الإفطار يُعدُ نذير شؤم ليوم لن يمر على ما يرام.

الغريب أن فيروس كورونا المستجد جاء ليرسخ تلك الكراهية إزاء نوع الخبز ذاك. فقد جعل أيامنا، بل وشهورنا مشؤومة، عامرة بساعات الخوف والقلق الدائم المصاحب لوسوسة مستمرة اتجاه نظافة أجسامنا ومحيطينا. ولم يبقَ إلا ظلنا الذي لم نرشه بأنواع المعقمات والصابون. ظِلنا هو الوحيد أيضا الذي لم نُمنعْ من عناقه وحضنه. غير أن هذه خطوة خطرة دالة على لحظة حُمقٍ. فضلاً عن أنها مستحيلة من الناحية التقنية.


ولأن الصعب دائما هي البدايات فقط، فقد تمادى الفيروس في جبروته ليحرمنا من حياتنا العادية التي لطالما اشتكينا من رتابتها. ها نحن نستجديها لتعود كما كانت أو أقل مما كانت.

نستنجد بالغث والسمين لقتل الفراغ اللا متناهي الآخذ في اكتساح آفاقنا ليعشش في عقولنا ونفوسنا. أستحضر هنا الكاتب كونديرا وهو يصف حال إحدى بطلاته قائلا: "توقفتْ لِتَسْمَعَ ضجيج الفراغ في رأسها المُطالب بأن يُملأ". يُوافقه فنان شعبي مُحتجا على الوضع وهو يُدندن أغنيته الشهيرة: "يُووومْ يَشْبَهْ يُووومْ. حْياتِي هَادِي. حْيَاتِي اللي تْمَنِيتْ تْكُونْ مَاشِي هادي".

كيف لا يفعل وأيامنا صارت نُسخا متكررة عشرات المرات، ظاهرا وباطنا (ريكطو - فيرسو). يفعل الفيروس كل ذلك مزهوا بأعداد ضحاياه وهو يمارس بكتمان القتل الصامت.

خبثه الفيروس الخفي ذاك أحيا في خاطري كراهية أخرى. ليس لخبز "الكْرُونْ"، بل للرياضيات هذه المرة. بدءا من تسميته كوفيد 19. على الأقل في ثقافتي الإسلامية يحيل العدد إلى زبانية العذاب في الجحيم، ما يجعله أشبه بنعيق البوم القبيح المنذر بقدوم موت غير مرحب به. علما أن الخفاش الذي أعتقد أن لا دور أو مكانة له في الحياة هو أصل هذا البلاء كله. أتساءل لماذا لم ينقرض مع الديناصورات أو قبلها؟ أتُراه مُكلف بمهمة في حياة أخرى؟.. سنرى.

أما في ما يخص هذه الحياة اليومية فقد بدأت أنفر من الإحصائيات. تحديدا العد التصاعدي. أَفِرُ من الساعة السادسة مساء لأنها ستحمل أرقام مصابين هم مشاريع جنائز. عَقْربُها سيعطي إعلانا بوفيات جديدة، هي بالنسبة لي مجرد أرقام. لكنها في أعين آخرين أسماء وأرواح وفراق وبكاء ومراسم وداع غير تامة.

وإنه لأمرٌ شاق على النفوس مهما بلغت صلابتها، إذ لا يعود الموت حدثا جللا في حد ذاته، بل انعدام الشاهدين عليه. كأننا أمام قبور نعلم أنها فارغة، أو كشخص أخذه الحزن في لحظات نزوته إلى نزهة بين تلك القبور فنسي اسم عزيز إلى قلبه، أو التبس عليه رقم القبر. ليصبح منذئذ كارها شديدا للرياضيات بدوره.
دلالات