"حب الحياة" .. لننتظر قليلاً

22 اغسطس 2020
+ الخط -

دائماً ما كانوا يتحدّثون عن "حب الحياة" في لبنان، وأن هذا الوطن قادر على النهوض من تحت الركام. ربما إذا قسنا الأمور بمسار تاريخي وزمني طويل، قد يكون هذا المنطق صحيحاً، ولكن في لحظة حصوله في بيئة تضمّ أفراداً لا يملك أيٌّ منهم امتياز العيش آلاف السنين لمراقبة عملية النهوض من تحت الأنقاض، لن يكون هذا الأمر حقيقياً، ولا حتى صانعاً للأمل، بل مجرّد وهم غير قادر على طمس الواقع الصادح. لا يمكن الطلب من الناس الشعور بالسعادة والفرح لأنهم نجوا فيما قضى آخرون. ليست هذه سنّة الحياة. في هذه الجزئية، انفجار مرفأ بيروت، هناك أمر غير طبيعي. جريمة. إهمال. حريق. اعتداء. هناك أمرٌ لا يمكن التسليم به وكأنه "قضاء وقدر". أي شعب، بغياب الدولة اللبنانية الحتمي، يعلم أن الإسراع في طيّ هذا الملف تحت شعار "الاستقرار" يعني طيّك أنت وكل من تحبّ تحت هذا الشعار. لا يمكن القبول بهذه الخفّة من التعاطي مع مشاعر الناس، وكأن حياة أحبائها مشابهة لأي قطعةٍ مادّيةٍ تُباع وتُشرى. ولا يمكن مجاراة المسار الرسمي للدولة الساعي إلى تحميل الناس، كل الناس، مسؤولية كل شيء. في انفجار بيروت، اتُهم الناس، لأنهم سارعوا إلى إنقاذ ما يُمكن أو إنقاذه أو الاحتجاج على بطء رد الفعل الدولتي. في ارتفاع الأسعار، اتُهم الناس بأنهم يستهلكون في إطار مجتمع استهلاكي غير منتج. في سرقة ودائع الناس من المصارف، اتُهم الناس أنفسهم بالمسارعة إلى سحب أموالهم وتهديد البنيان المالي للبنان. ثم يأتي بعضهم، ويتهم الناس بالتبعية، ضمن منطق المؤامرة، فقط لأنه عاجز عن فهم أن الناس ليسوا أداةً بين يديه ويدي غيره، أو مثله.

لا يمكن الحديث عن "حب الحياة" ولم يكد يمرّ أكثر من ثلاثة أسابيع على انفجار مرفأ بيروت بعد، ولم يُعرف مصير مفقودين عديدين فيه، ولم يُعرف بعد مصير أكثر من ربع سكان العاصمة بيروت الذين شُرّدوا، قبل شهر ونيّف على الأكثر من بدء موسم الأمطار. من غير المنطقي التفكير بـ"حب الحياة" بصورة الفرار من الواقع. هناك أشخاصٌ غير قادرين على السكن في منازلهم. هناك أشخاصٌ فقدوا أعمالهم. هناك أحياء مصابون بإعاقاتٍ أبدية، وهناك عائلات منكوبة بأولادها. لا يمكنك أبداً أن تتحدّث عن "حب الحياة" ورفض الموت، فما تطلبه ليس سوى إنكار لواقع حقيقي، لن ينجح أي واقع افتراضي أو خيالي في إخفائه. وسط هذا كله، كيف يمكن أن تطلب من الناس "حب الحياة" والمصرف المركزي يهدد برفع الدعم عن ثلاثة قطاعات أساسية في الحياة اليومية: القمح، الأدوية، الوقود؟ 

حسناً، "حب الحياة" لا يعني متابعة رقصة الكراسي الموسيقية بين الأحزاب والتيارات اللبنانية وقادتها وكأن لا شيء يستحق المراقبة غيرهم. لا يمكن لأي عاقل التفكير لحظة أن همّ مواجهة دولة ما أهمّ من تأمين خبز في المنزل. الأولويات ليست بالضرورة "قومية"، بل في وسعها أن تترافق مع أولوياتٍ فرديةٍ حياتية. لا ضير في تحقيق التوازن بين السياسات العامة وحاجات الناس. هذا ما لم يفهمه ولا يريد أن يفهمه أي فردٍ من المنظومة اللبنانية. هل تعلمون لماذا؟ لأنه في اليوم الذي تتساوى فيه أولويات الفرد مع أولويات المجتمع، على شكل وطن أو مدينة أو غيره، لا تعود أنانية الحزب وقائده قادرة على مواجهة الناس، بل سيتحوّل إلى فردٍ مماثل لهم، وهو ما لن يسمح له بفرض سطوته وهيمنته وتلبية "الأنا" لديه. لذلك، يدركون أن الجوع لم يعد سلاحاً بيدهم، بل موجّهاً ضدهم. "حب الحياة" ينطلق من فرض المساواة في الأولويات، لا في إعلاء إحداها على حساب أخرى، ولا في وأد واقعٍ فرض نفسه على ذاكرة الناس ووعيهم.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".