"الملك الإصلاحي" في السنوات العجاف

24 يناير 2015
شهد عهد الملك تحولات كبرى (فرانس برس)
+ الخط -
منذ الأزمة الصحية الأخيرة التي ألمّت بالملك السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد دخوله المستشفى وما أعقبه من إعلان الديوان الملكي في بيان رسمي عن إصابته بالتهاب رئوي، والتكهنات ازدادت حول مستقبل المملكة، ولا سيما في موضوع ولاية العهد والنائب الثاني أو ولي ولي العهد بشكل خاص، وهو الأمر الذي حسمه الملك سلمان بن عبد العزيز، بعد ساعات من مبايعته.


رحيل أبناء عبد العزيز

وإن كان انتقال العرش لولي العهد ووزير الدفاع الأمير سلمان بن عبد العزيز (80 عاماً)، بموجب العرف الذي اعتادت عليه المملكة منذ ثمانين عاماً، مسألة حتمية، فإنّ ولاية العهد ووليّه لم تكن، على الدوام، بهذه السلاسة، وذلك على إثر استنفاد الخط الثمانيني بين أبناء الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود، مؤسس الدولة الثالثة، عبر خروج أو وفاة أكثر الأسماء قوة ونفوذاً خلال السنوات القليلة الماضية، من مواقع القوة في الخارطة السياسية السعودية.

ومن أبرز هذه الأسماء: الأمير بدر بن عبد العزيز، نائب رئيس الحرس الوطني، والذي أعفي من منصبه في عام 2010 وتوفي لاحقاً، والأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز، نائب وزير الدفاع السابق، والذي أُعفي من منصبه في عام 2011، والأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد الأسبق ووزير الدفاع، الذي توفي في العام نفسه، والأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد السابق ووزير الداخلية، الذي توفي في عام  2012، والأمير أحمد بن عبد العزيز، وزير الداخلية السابق الذي أعفي من منصبه في العام نفسه، ولم يكن قد مضى على تنصيبه حينها خمسة أشهر.

وشهدت السنوات القليلة الماضية صعود أسماء جديدة إلى مراكز القوة، وبالتالي انتقال الحكم تلقائياً إلى جيل أحفاد عبد العزيز، ما أثار تساؤلات حول التحدّي الذي ينتظر المملكة النفطية، وذلك للمرة الأولى، بعد عقود طويلة من الانتقال السلس للحكم، بحسب الأكبر سنّاً في الخط الأول، إلى خطّ ثانٍ تكون الأعمار والقوى فيه متقاربة ومتكافئة بشكل أكبر.

الإصلاح: رواية الصعود

حين وقعت أحداث سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، لم يكن قد مضى على تقدّم الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد في حينه، إلى دفة الحكم الفعلي سوى ست سنوات، وذلك بعد الوعكة الصحية الأخيرة التي ألمّت بالملك فهد بن عبد العزيز، عام 1995. وساهمت التفاعلات اللاحقة على إثر الحدث في صناعة رواية رسمية أولى للأمير حول رؤيته للحكم والإدارة.

تمثلت هذه الرواية الأولى في بروز شخصية الأمير الإصلاحي الجديد المتقدم نحو العرش. رواية دعمها بيان حمل عنوان "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله"، كتبته مجموعة من الأكاديميين والنشطاء السعوديين، وأعربوا في ديباجته عن إعجابهم وتقديرهم وارتياحهم  لما صدر عن الأمير (وقتها) في مسألة الإصلاح وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية، في إشارة إلى الكلمة التأسيسية للأمير عبد الله (حينها) في مركز الحوار الوطني عام 2003، والتي جرى تأكيدها في التوصيات التي خرجت عن اللقاء الأول الذي جمع الموقعين على البيان والملك الجديد.
 وشدّدت النقطة العاشرة من التوصية على "الاستمرار في عملية الإصلاح بكافة جوانبه، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية بما يعزز الوحدة الوطنية ويعمق مشاعر الانتماء".

يروي الباحث الفرنسي، ستيفان لاكروا، تفاصيل لقاء جمع الراحل عبد الله والموقعين على البيان، وهو لقاء حضره الكاتب الفرنسي. ينقل لاكروا في كتابه "زمن الصحوة" عن عبد الله قوله للحضور: "رؤيتكم هي مشروعي، وأعتبركم جنودي". الأمر الذي دفع بعدد من الحضور إلى إصدار بيان آخر في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، جاء تحت عنوان "نداء إلى القيادة والشعب معاً: الإصلاح الدستوري أولاً"، وهو الذي أعلنوا فيه الخطة الوطنية للإصلاح والتغيير والانتقال الديمقراطي، وتم اعتقالهم على إثره، ليعفو عنهم الملك بعد عامين، وذلك في أغسطس/آب من عام 2005، بعد تسلّمه الحكم بأيام قليلة.

فسّر المحللون العفو الملكي في حينه بأنه إعلان لبداية عهد جديد، وذلك جراء ما أعقبه من توسيع هامش النقد في وسائل الإعلام المحلية للمؤسسات الحكومية والمظاهر الاجتماعية، والإعلان عن عدد من القرارات الملكية، والمشاريع التنموية، وكان من أبرزها، الإعلان عن الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2005، وهو الأمر الذي اعتبره بعضهم مرتبطاً ببقية التطورات، وأنها حدثت جراء هذا الانضمام وفي سبيله، في إشارة إلى أن المنظمة مارست ضغوطاً كبيرة على الحكومة السعودية في عدد من الملفات الداخلية، للموافقة على طلب انضمامها. ومن ضمن طلبات الانضمام، بحسب ما جرى تداوله، الموافقة على إنشاء "الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان"، والتي أنشئت قبل الموافقة بعام، وتحسين وضع المرأة في المجال العام.

في المقابل، اعتبر آخرون أن هذا الانفتاح الجزئي في الأفق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لا ينفصل عن التفاعلات والتطورات في مجملها، والتي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وذلك في إشارة منهم إلى "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي طرحته الولايات المتحدة في قمة "جزيرة البحر" في عام 2004. ونص هذا المشروع على عدد من القضايا بصفتها إشكالات كبرى، كالتحول الديمقراطي وحقوق الإنسان والحريات والمرأة والفساد والإصلاح الاقتصادي في المنطقة، واعتبر أن استمرار تعثرها هو تحفيز لنشوء ولانتشار الجماعات المنظمة خارج الدولة، والتي بدورها تدفع بالمزيد من "التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة". إعلانٌ أسفر، بحسب مراقبين، عن الانتخابات البلدية المحلية في السعودية.


الاستقرار: رواية التجاذبات

منذ الإعلان عن تأسيس "هيئة البيعة" في أكتوبر/تشرين الأول 2006، والتي تقوم بتنظيم عملية انتقال الحكم والسلطة في داخل الأسرة، انقسم المراقبون حولها إلى ثلاثة اتجاهات: الأول، رأى أن هذه العملية ليست إلا محاولة حديثة من الملك الجديد، حينذاك، في أن يرسم لنفسه سياسة تقوم على التغيير في معادلات السلطة وانتقال الحكم، لتضع بدورها قواعد جديدة بخلاف ما كان يسير عليه الوضع، بشكل غامض طوال العقود الماضية. واعتبروا أنّ هذا الأمر يساهم في تأمين الوضوح والاستقرار.

اتجاه ثانٍ ربط بين إعلان تأسيس الهيئة وتأخّر تسمية النائب الثاني، وهو المنصب الذي ظل شاغراً منذ تولي الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز الحكم في أغسطس/آب عام 2005، وحتى مارس/آذار 2009، في محاولة منه للقول إنّه في سبيل تغيير معادلات السلطة وانتقال الحكم، لا بد من إعلان مسألة مهمة مثل "هيئة البيعة"، والتي من شأنها أن تساهم في إعادة بناء شبكة العلاقات الداخلية في الأسرة من جديد، لتقوم بدورها في تغيير مراكز القوى من خلال صعود ومساواة مواقع مختلفة في ما بينها، وهو التفسير المدفوع بتصريح الأمير نايف بن عبد العزيز، عقب صدور الأمر الملكي بإنشاء الهيئة، واصفاً إياها بأنها "استشارية" ليس إلا، في إشارة إلى أنها غير ملزمة ولا تحظى بقبول الجميع. هو الأمر الذي يذهب إليه الاتجاه الثالث، والذي يعتبر أن نتيجة هذه العملية ليست سوى المساهمة في التحسين من شروط التسويات من خلال تهيئة ظروف جديدة تساعد على ذلك.

وما تصريح الأمير طلال بن عبد العزيز، الذي كان من أعضاء "هيئة البيعة"، حين تم الإعلان عن تعيين الأمير نايف نائباً ثانياً في عام 2009، بأنه "كان ينبغي استشارة الهيئة قبل اتخاذ هذا القرار"، إلا تعبيرٌ عما يعنيه الاتجاه الثالث من تحسين شروط التسويات؛ فقد دعا الأمير طلال في حينه الديوان الملكي إلى توضيح ماذا يعني بهذا التعيين، وإن كان يعني أن الأمير نايف سيصبح ولياً للعهد، قبل أن يقدم استقالته من الهيئة في عام 2011، وذلك بعد أسبوعين فقط من تعيين الأمير نايف.

لقد جاء تعيين الأمير نايف وليًا للعهد، في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2011، بعد نحو سبعة أشهر على الخطاب الملكي في الثامن عشر من مارس/آذار من العام نفسه، والذي تقدم فيه بالشكر إلى الشعب السعودي وإلى هيئة كبار العلماء والكُتّاب على عدم استجابتهم لدعوات الخروج للتظاهر التي انتشرت في المواقع الإلكترونية المحلية تحت اسم "ثورة حنين"، في أعقاب اندلاع الاحتجاجات في المنطقة العربية، بقوله: "بكل اعتزاز، أقول للجميع، ولكم مواطناً ومواطنة، أن أي أمة ترفع كلمة الحق لا خوف عليها، وأنتم في قلبها الأمناء على الدين وأمن واستقرار هذا الوطن".

أما الخطوة الرسمية الثانية، التي يظهر أن الحكم اختار توسل الاستقرار من خلالها، في ظل التطورات الإقليمية، فقد ترجمها تعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز، بقرار ملكي "محصن" للمرة الأولى في تاريخ السياسة السعودية، ولياً لوليّ العهد، وفي ظل غياب "الكبار". وفتحت هذه الخطوة الباب واسعاً أمام جيل الأحفاد كي يعلن عن مواقفه في المجال العام، وعبر وسائل الإعلام القديم والحديث، من دون حدود وضوابط كتلك التي عرفها الآباء قديماً، مما ينبئ بأن المستقبل من الممكن أن يحمل في حقيبته خطوة رسمية ثالثة بخلاف الأخيرة، وربما ستكون أبعد بكثير من الأولى في توسلاتها للاستقرار.
المساهمون