قطيع خيول بيضاء

18 سبتمبر 2019
(الشاعر في "معرض فرانكفورت الدول للكتاب"، 2009، تورستِن سايلز)
+ الخط -

مدفن سماوي

مثلما تحلم صخورٌ بهذه الأسماء
أموتُ مجدّداً،
أخطو في بيت السكون وسط غطيطٍ
طيورٌ خارج النافذة، صرخاتٌ في مكان آخر
والصباحُ العابر مسرعاً
يجرُّ على الأرض حَبْلَ رباطه
وجهي يلتقي بوجه آخر، صدامٌ فريد
السماءُ حجر صوّان
لم يتمكن أسلافنا من الإفلات من هذا الكهف الصغير الهشّ
اللهبُ المحتضر لا يترك سوى مطرقة
لأن المحيط منحوتٌ من عتمة
عيونُ نهار عمياء مفتوحة
عظامٌ بيضاء تغوص عميقاً بسكون
حتى لو حلمتْ صخورٌ بأن كل هذه الأسماء ثلجٌ
يذوب بهدوء
أنا أحلم بتلك الطيور تدوّم في الضياء
بعيداً عن المنحدرات
أحلمُ أحلام كل صخرة.


■ ■ ■


علامة شهر نوفمبر

في نوفمبر جثة متفحمة
تتأرجحُ خارج النافذة
ضوءٌ أسود ينتحب واهناً
نوفمبر شجرةُ جوز عارية تماماً بلا غطاء
امرأةٌ سوداء تنتحب واهنة
دماغٌ مكشوف وحيداً
تحت مطر حامضي
يتساقط، لا قبلكَ ولا بعدكَ
الصباحُ كلّه حقولٌ سوداء
جليدٌ أبيض
قطيعُ خيول بيضاء، تياراتُ المحيط مبقّعة بالبياض
تمرّ وتبتعد متماثلة في فبراير
في السماءِ عتمة مُترَعة بضوء لا ينتحب.


■ ■ ■


الزمان.. المكان

لا أستطيع العودة إلى ذلك البيت العتيق،
وأنت لا تستطيع العودة الآن أيضاً، ومع ذلك،
مثلما يُضيء ذلك القنديلُ الليلة كلّها
وتتسمعَ خارج النافذة ظلالُ أشجار الحور الطويلة السوداء،
تظلُّ تنتظر رشاش خطواتٍ نائية
الخريف كلّه، الريح وحدها جاءت في زيارة تقلِّب
أحجارَ القرميد الأحمر واحداً فواحداً
شجرة زيتون أكتوبر الصغيرة باهتة، الجدران المهدمة تنهار،
ومع ذلك جاءت حاملةً ذات مساء في حلمك
من ذلك الذي سيزهر ويتألّق منفرداً
في بيت عتيق مألوف لا أستطيع العودة إليه؟
أنت لا تستطيع العودة إلى تلك الأيام الغريبة الماضية

موسيقى القلب توقّفت تماماً
واختفت الغرفة ذاتها في نسيانها هي
الأشجارُ تلفّها الخضرة أو النوم
تذبل كلّها ما إن تستيقظ، تسقط كلّها، تتناثر كلّها
ما تزال الأيام الماضية حاضرة،
المكانُ حاضرٌ حيث اختفت أيدينا
تتحرّك الأسماءُ، تذعن بعناية لمحرّمات متماثلة
ولكن مبكراً، في كل صباح والطيور تغرّد،
هل تذكّرتَ أنه كانت هناك عتمة
تبرز من الصمت، تقلب الأفق البعيد دوماً رأساً على عقب؟
دفق المياه المتموّجة السمراء على كوكب آخر
تبدّده كل الطرق
هذا هو ما يصبح الطريق الوحيد إلى البيت.


■ ■ ■


طيور من ورق

الغرفةُ هي هذا النهار، جدرانٌ لا مبالية
ذروةٌ تعلو بها عاصفة فوق موجات جليدية بيضاء
ويأتي ممرّ الزمن الطويل
بكل جلود المريضات البالية
طيورٌ تسفّ فوق الورق، تحلّق برقةٍ بالغةٍ
في الظهيرة
على ضفة النهر الخفيّة أجسادٌ جففتها الريح
تغوص في الضوء دوّامة مائية محكمة
تنشر أجنحة
البداية الحقيقية الوحيدة تولد على هيئة موت
أصبعٌ واحد يُسند عالماً
الهيكلُ العظميّ النحيل مستنفدٌ، مستهلكٌ
لذا لا مكان للراحة
الغرفة أو إزعاج الأطفال أو الهواء فوق كل عنوان
يزيّن أسماءً منسية منذ زمن طويل بعد أن غادر مالك البيت
الماضي يشبه أسناناً صناعية مخضرّة وصدئة
واليومُ يفلت منك مثلما تفلت الأحلام من رقعة سماءٍ زرقاء.


■ ■ ■


بيت المياه

الظلمة معلّقة فوق الفراش، تنتشلكَ السماء
بياضٌ يتوهّج
يصرخ طائرٌ مرّةً، ثم صمتٌ عميق
أمواجُ البحر المحيط مثل شفة تنفرّج
لتبدي أسناناً خفيّة
تعضّ الشاطئ متألمة، جزركَ شظايا ناقصة
تجرفها الرياح
تبقي الكائنات البحرية في حركة دائمة
تضيء حين القرب منها فجأة، ملحٌ أو ضياء
أخيراً انبلاج النهار ملحٌّ، وشيكٌ
تتبدّد المياهُ، ما يُدخل فيك عميقاً شجرة
شجرة مثل نافورة متلألئة، موجاتٌ بيضاء مدوّخة
تتصادم وترتجّ بعنف
على مهاد بحركَ المهجور، العتمة تغرقكَ
تأخذكَ بعيداً، لا يمكنك سماع صراخ الطيور وهو يبدأ مجدّداً كما لو في حلم
نائية هي الأغصان
وأنت لا تزال فوق هذا الفراش
تعلو وتهبط وحيداً
أمّك ماتت في هذه السنوات العديدة
نبضات الولادة باقية
لا يوجد شيء، لا وجود حتى لك،
نوم نرسيس متواصل
وضوء الشمس بعيدٌ جداً، ذلك العالم لايزال أبعد، لايزال أبعد.


■ ■ ■


تمثال في الفراغ

في الحقيقة لا توجد طرقٌ
تؤدّي إلى المكان الذي تنفّستَ فيه ذات يوم
على فراشٍ صباحي
غارقٍ في سنوات الماضي
في السماء تتجمّد الريحُ،
تومض قطعانُ نجوم على ظهر ورقة رمادية زرقاء
مقلوبة، العالم منهوبٌ
ومفرغٌ مرّة أخرى
موتٌ في الذاكرة
انتهاك برئ يتكرّر يومياً
والجمجمة الجاهلة
تسقط في حرب بعيدة مجانية

حقولٌ خضراء
أثقلَ عقاب ينتظر
في آبار الجسد الناضبة
مياه الربيع التي لا يمكن أن تتدفّق
مغطاة تحت زقزقة عصافير قاسية متهلّلة
مغادرة، اللحظة التي لا تنتمي إلى أحد
لحظة لا وجود لها
جزّأت برهةً
جزّأت الأبدية

اليدُ التي حفرت عبر العتمة والحدود البيضاء
نحتت مني شخصاً آخر أيضاً
في الشقوق القاتمة بين أسنان الجثث
أسماءُ تقيم كل يوم
المزيد والمزيد من مذابح بعيدة
وبعيداً في القلب
تشوّه قطرةُ دم
أسرّةً مألوفة أكثر من البشر
مع آهات غامضة
بعد أن قُطع وانفتح الشريان

المنتصرُ لا أحد
لا أحد، لا الزمن أو نحن،
يمكن أن يعود إلى الأمس مع أننا نصبح أمساً
في القبر المتوحّد
يتشابك خط رؤية مغلق عليه في صخرة
موتٌ في ذاكرة
هو ذاته مثل موت في حالة نسيان
ومع ذلك للموتى
حرية تسمح للصخور أن تتذكّر.


■ ■ ■


السماء التي دفنت فان كوخ

الفنّانون والأباطرة فقط
انقش قبورهم قبل موتهم
في لوحة تحوّل العالم إلى ظلال لهم
بما في ذلك أنتَ وسرير موتك ينتفض
لا يمكن لإنسان حيّ أن يخطو ويدخل السماء ما لم يُدفن
في توق أزرق لصدر طاووس ميت
تطلق أساريره جمجمة ممسوس رمادية،
كوكبةُ نجوم شبيهة بورم تمتصّك واقفاً
موتكَ يظهره آخر لون ذهبي أصفر
يلطّخ جسدك كله، وتلك الغرفة الصغيرة
مثل مهانة، هي ضربة فرشاة تكتبها ضربة فرشاة،
فتولد السماءُ
أصواتنا ليست سوى موسي حلاقة
يقطع كل أذن تلتمس سماع صمتك
والنجوم سربُ كائنات لا تنزف
تثيرك، تمنحك ازدراءً سماوياً خالصاً لهؤلاء البشر

بعد الموت، تواصل خلق خواء فيما هو حيّ، في البحر الأزرق الساكن،
وتتصلّب مثل قطعة فنية منفردة فوق سطح اللوحة
تلك العظام تجفّ ليلاً
تتناثر في كل مكان، لا يلاحظها أحد.


■ ■ ■


الشارع الذي أراه من نافذتي

على الشارع الذي أراه من نافذتي لا تمطر أبداً
إنه يمتدّ بجوار حافة نافذتي
متزنٌ وهادئ مثل مشط
ينتظر امرأة صامتة
تأتي مرفرفةً وتدخل مثل نورسٍ متعب
تحتضن نفسها بيديها، كتومة مثل حصاة
على ظهرها حقيبة رمادية مكسوة بالفراء
صفراء فاتحة تغيّر شكلها بهدوء

الشارع الذي أراه من نافذتي أبيض مع ثلج
طوال الشتاء، في الشارع سبع قطط
تائهة، ورجل ينام في سيارة مهجورة فقط،
أو ثمانية أزواج عيون متماثلة
قشور حبوب فارغة، خالية من الاستياء تماماً،
بالغة الرأفة، وعدتْ، وأنا مقتنع بهذا، أن تطعم بعضها بعضاً بجثثها
وكضمان، بلمسة لطيفة.

تمرّ أجنحة فراشات حديدية مثل طائرات مجنّحة
أسدية الزهرة الهادئة سمٌّ قاتل دائماً
بوابات السد تبدأ بالارتفاع، العالم في عيون تعاني من الإعتام
ترجمة مبهمة
وبالعودة إلى النافذة
رجل يخلق كوابيسه
يطعم بكلمات مصنوعة من عتمة وحوشاً سجينة في جسده
يد النجار تحمل فأساً دامية
بحثاً عن بقّ فراشٍ بين ساقَي امرأة
تفاصيل بلا عظم تُبقي الوصف أكثر كمالاً
حين تغرق حاسة الشم المتدثّرة بالجلد في نوم عميق،
صرخات كما ملحٌ يموت في ماء يغلي،
لا أحد يمكنه الدخول من هذه البوابة الضيقة
سوى أشباح مسطحة.


■ ■ ■


فتاة تتذكّر

نفسٌ عميق، ثم عينان مغمضتان،
وأنت تجيء إلى غرفتي
صيفاً، هناك أصابعُ أغنية في الأجمات، وقدماكَ،
ذكرى مقبرة ساكنة،
لا تنحنِ من أجل أن تنظر إلى شاهد القبر
متوجساً، باحثاً عن اسمٍ يماثل اسمكَ
لا تهمس لهم أو تضحك
تلك الضحكة التي تذكّرها الآخرون ذات يوم أيضاً
لا، لا ليست تلك الأرض المعشبة حيث تحممتَ تحت أشعة الشمس
سجادة خضراء، شبكة عمرها تسع سنوات ممتلئة بالضياء،
الصخرة لا تفهم كل ما أحببته أنت بعمق
تتناثر الأسماءُ في كل مكان مثل أوهى نسمة آتية منك
والحلمُ بعد أنفاسك منسيٌّ تحت الأرض غير النائية
أو البعيدة أكثر، داخلاً إلى هذه الغرفة التي تفكر فيك،
التي لم تأت إليها أبداً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بطاقة

Yang Lian من شعراء الصين المعاصرين الأكثر شهرة على صعيد العالم. وُلد في سويسرا عام 1955 وتلقّى تعليمه الابتدائي في بكين، إلّا أن الثورة الثقافية قطعت عليه دراسته بعد عام 1966، وأُرسل ليعمل في الريف عام 1974 ضمن حملة إعادة التأهيل، وهناك مارس عدة مهن ضمنها مهنة حفار قبور. عاد إلى بكين عام 1977 بعد انتهاء الثورة الثقافية وعمل في وظيفة إذاعية.

خلال وجوده في الريف، بدأ كتابة الشعر وفق نمط الشعر الصيني التقليدي مع أن هذا النمط كان محظوراً. بعد ذلك أصبح شعره أكثر حداثة، وانضم إلى مجموعة شعراء عام 1977 حرّروا مجلة باسم "اليوم". لفتت هذه المجموعة الانتباه وأُثيرت حول تجاربها الحديثة الكثير من المناقشات، وأصبح يُطلق على شعرائها لقب "شعراء الغموض".

في عام 1983 هرب من الصين إلى نيوزيلندا إثر صدور أمر بإلقاء القبض عليه بسبب قصيدة استمدّ عنوانها من اسم شلال يقع في "التيبت" كتبها في سياق حملة "ضد التلوث الروحي"، والتي توقفت إثر هربه.

وخلال وجوده في نيوزيلندا، شارك كتابةً في الاحتجاجات التي شهدتها ساحة "تيانمين" في بكين، فوُضعت أعماله على "القائمة السوداء" عام 1989. ومنذ ذلك التاريخ أصبح شاعراً صينياً يعيش في المنفى، ويحمل عدداً من الجنسيات آخرها الجنسية البريطانية حيث يعيش، ويتنقل باحثاً وأستاذاً جامعياً بين لندن وبرلين.

نشر خمسة عشر مجموعة شعرية، ومجموعتين من النثر الشعري، وكتاب مختارات من النثر الصيني، وعدداً كبيراً من المقالات. وعُرف بترجماته لأعمال جورج أورويل إلى اللغة الصينية.

لاقت أعماله الشعرية اهتماماً على نطاق واسع وتُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، ونال عدداً كبيراً من الجوائز. أبرز سمات شعره أنه على صلة إبداعية عميقة بالشعر الكلاسيكي الصيني من جهة، وبتيارات الشعر الحديث من جهة أخرى. وربما لهذه السبب يُعدّ صوتاً متفرداً، ثقافياً وسياسياً، في سياق الأدب العالمي اليوم.


* ترجمة محمد الأسعد