رسالة غرامية

10 نوفمبر 2015
صفوان دحّول / سورية
+ الخط -

كالعادة، أيام الجمعة، نجتمع في الحانة للاستمتاع بعشاء شهيّ يعدّه بإتقان الطباخ ماريانو. كان قد أعدّ لنا، في ذلك المساء، كطبق أوّل، خليط اللحم والخضار اللذيذ، وكطبق رئيسي، لحماً مطبوخاً بمذاق لا يوصف.

عند تناولنا طبق الحلو، وبعد أن تعبنا من الحديث في السياسة وأن نلائمها مع آراء كل واحد، منا قرّرنا تذكّر قصص أو حكايات كانت متداولةً في محيطنا.

قرّر بيرموديث المتباهي، وهو نموذج لرجل سمين وممتلئ الخدّين، قص حكاية كان يحكيها عمّه باستمرار.

أصغوا إليَّ جيداً أيها الرفاق، ما سأحكيه لكم وقع بالفعل في إحدى القرى الصغيرة التي يسكنها عددٌ قليل من الناس. القصة جرت في نزل كان يسكنه طالب وبعض العمّال ومومس. الطالب كان منطوياً على نفسه ولا يربطه علاقات مع أغلبية النزلاء. العمّال كانوا يخرجون للعمل في الصباح الباكر (عند شروق الشمس تحديداً) أمّا المرأة، فكانت تدخل وتخرج، من وإلى غرفتها، كل لحظة.

الطالب اسمه باسكوال، وتقريباً لم يكن يخرج من غرفته. كان يترك باب غرفته موارباً دائماً، وكان يسمع ذهاب وإياب الجارة الغريبة.

المرأة تُدعى بيترونا، لكنها كانت تقول إن اسمها أغوستينا. علاوةً على هذا، كانت صفيقة الوجه، وتتكلّم بصوت مرتفع كأنها تصرخ، وكانت أمية؛ أي أنها لم تكن تجيد القراءة والكتابة، رغم أنها بين الفينة والأخرى كانت تستقبل رسائل قادمة من القرية المجاورة.

ذات يوم، فتحت الجارة باب غرفة الطالب على مصراعيه، وبصوتها الخشن والرنان صرخت في وجهه من عتبة الباب:

- أيها الطالب أحتاج أن تسدي لي خدمة! لا يمكنك الرفض، إنه أمر طارئ.

نظر إليها باسكوال من الأعلى إلى الأسفل، ولاحظ كم هو قبيحٌ شكلها: كانت فارعة الطول، تبلغ متراً وتسعين سنتمتراً، وكان جسدها مشوّهاً، ترتدي مجولاً واسعاً أخضر اللون وحذاءً لا يليق بها، رأسها يشبه بصلة، بشعرها المربوط في قمة الرأس، وداخله مشط قروي.

- في ما أساعدك في هذه الساعة المتأخّرة من الليل؟ أحتاج مراجعة درسٍ، وليس معي متّسع من الوقت، قال باسكوال بمزاج سيئ.

- أحتاج أن تكتب لي رسالة، لن يأخذ منك الأمر الكثير من الوقت.

لم يفكّر باسكوال في الأمر مرّتين. إذا كان الأمر يتعلّق برسالة فقط، فلن يضيّع الكثير من الوقت وسينتهي سريعاً من البعبع الذي لا يُطاق الماثل أمامه. طلب منها الدخول، وفي الطاولة ذاتها حيث كان يقرأ كتبه، أخذ ورقة وانتظر أن تملي عليه السيدة شجنها.

- اكتب بخط جميل أيها الطالب. ابرِ القلم وابدأ رسالتي الغرامية المهيبة.

"حبيبي وعزيزي ماوريثيو". ضع نقطتين واستمر.

- سيدتي - قال باسكوال- أنا أعرف قواعد ترقيم الرسائل جيّداَ. استمرّي في الإملاء رجاءً.

"اشتقت إليك كثيراً في هذه الزريبة المختلطة، وأطلب منك أن ترسل لي ردّاً سريعاً، فقد اشتقت إلى رسائلك، كما يشتاق القلب إلى الدم الذي يجعله يخفق". هذه الجملة سمعتها من إحدى الفتيات تقولها وتكرّرها على مسامع حبيبها ذات مساء.

"الكل يسألني عنك وأجيبهم أنك قريباً ستكون بجانبي. أحبك وأنتظر جوابك على أحر من الجمر".

- يكفي، هذا كل شيء. أشكرك على المساعدة. سأضع الورقة في ظرف بريدي وسأرسلها على الفور.

- سعدت بمساعدتك، أرجو أن يصلك الرد المنتظر، قال باسكوال.

مرّت أيام قلائل، ومن جديد اخترقت بيترونا غرفة الطالب وفي ذهنها اقتراح جديد.

- أيها الطالب، أحتاج أن تكتب لي رسالة أخرى.

- يا سيدتي، أتحسبين أنني أصبحت موثّق علاقاتك الغرامية، أم ماذا؟

- دعنا من الجدال حول هذه التفاهات، وخُد ورقةً واكتب لي رسالة مقتضبة من فضلك!

على مضض، أخذ باسكوال ورقة من حافظة الأوراق وقلماً في يده وانتظر سماع ما ستمليه عليه بيترونا خفيفة العقل.

- اكتُب أيها الطالب بخط أجمل من المرّة السابقة: "معبودتي ونابغتي أغوستينا.. أنتِ أكبر حبّ في حياتي. لا أستطيع العيش دون مذاق شفاهك الحمراء، التي اشتقت إليها كثيراً. أرجو أن نلتقي قريباً وأن نحضن بعضنا بقوة. أحبك من كل أعماق قلبي. صغيرك لاوريانو".

بجديةٍ نظر باسكوال إلى عيني السيدة وقال:

- سيّدتي، أتحسبينني مغفّلاً أم تظنين أنني أبله منذ ولادتي؟

أنا أكتب رسائلك وفي الآن ذاته أكتب الردّ عليها؟ ماذا تريدين أن تثبتي بهذا؟

- أيها الطالب، ألم تنتبه إلى أن لا أحد يقدّم لي حناناً حقيقياً، ولا أحد يهتم لأمري، ولا أحد يساعدني على العيش على أمل؟ على الأقل، عندما أضع الرسائل في حقيبتي يمكنني أن أقول لصديقاتي في الشارع إن لي خطيباً يحبّني ويشتاق إليّ كثيراً.

- الآن أتفهّم، لكن هذا شبيه بالعيش فوق سحابة، لا نحتاج كل هذا للإحساس بالسعادة.

- لا تخطئ الظن أيها الطالب. أنا أعيش داخل تلك السحابة وأنا سعيدة على طريقتي. لا تنتزع مني أمل أن أشعر بأن شبحاً يداعبني يسكن في رأسي فقط.

- حسناً، لكن حاولي أن لا تزعجيني كل الوقت. عندي أولويات في دروسي، ولا يمكنني إضاعة الوقت كثيراَ في هذه التفاهات.

في الصباح التالي، طرق صاحب النزل باب غرفة الطالب لإشعاره أن بيترونا وُجدت ميتة في غرفتها. كانت قد تناولت علبة كاملة من الحبوب المنوّمة لتستطيع النوم، آخذةً معها وهم عشقها.

التزم باسكوال الصمت وسقطت من عينه دمعة انسابت على خدهّ... لا أحد علم باشتياق السيّدة الغامض ولا بالشخص المغرم المولع بها.



Rubén Óscar Lofeudo قاص أرجنتيني وُلد سنة 1940

ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي



اقرأ أيضاً: مع من أريد الذهاب للعيش؟

دلالات
المساهمون