كانت منغوليا مَطهرًا للفارّين، فحظُّ مصادفةِ بشرٍ آخرين فيها أوفر ممّا هو عليه في الغابات. ولكن لمّا كان النفوذ الروسي يمتدّ إلى حدود الصين، فإنّ المحكوم عليهم لم يكونوا في منجى بعد، وهو ما يفسّر ضرورة مواصلة الطّريق بالنّسبة إليهم، وعدم الاستسلام.
أبحاثي وبعض المسائل التنظيميّة فرضت عليّ البقاء في أولان باتور أسبوعين. كنتُ أتربّص بأيّ شخص ينقل إليّ حكاية فرار أو يدلّني على سبيل للبحث. سعادتي الأُولى كانت في التقائي يوري نيكولايفيتش كروشكين واحد من آلاف رُوس أولان باتور.
وأنا أشرب الشاي في عمق كوخ اللبد، خطر ببالي أنّ هذا الشعب الودود المسالم، المنهمك طول النهار في حلْب خيوله، جسّد، في ما مضى، إحدى القوى الإمبراطورية الأكثر دمويّة في تاريخ البشرية كلّه. لقد كان النّاس يخشون غزوات مغول الإمبراطوريّة حتّى في الغرب.
غالبًا ما أفكّر في تلك الثورة وآسف أنّها لم تلد ثورات أُخرى، لأنّ انفراجها لافتٌ للنظر. كان لمتمرِّدي ديسمبر 1825 من النُّبل أن حلِموا ببناء مستقبل أفضل بدل إزالة مائدة الماضي، المفارقة أنّ النّفي منحهم فرصة التّجريب على أرض المنفى.
وصلت إلى أولان أودي بسبب رأس لينين، تمثال من البرونز هو الأكبر في العالم السّوفييتي. كلّ من يمرّ قربه، يُفكّر أنّ مِن هذا التّنّور الدّماغي انبثقت رؤية جديدة للإنسان والعالم، ولم يقع تفكيكه عند سقوط الاتّحاد لأنّ السُّكّان يفخرون به.
ولّدت فيّ الحكاية رغبة لاعقلانية لزيارة الجزيرة، لأنّها بالضبط الموضع التراجيدي الذي أروم الوصول إليه، فإذا بلغته، أحبّ أن أبقى بعض اللحظات مغمض العينين قبل أن أبحث عن موضع آخر.
على شاطئ رمليّ نديّ، يُصادف أن أقفو آثارها طيلة ثلاث ساعات كاملة: بصمات مخلبيّة ضخمة. أن يسير المرء في ثنيّة دبّ، يعني أن يتملّكه إحساسٌ غريب بأنّه يوجد حيث لا ينبغي أن يوجد، عندما أتوقّف للاستراحة، ولو كانت قصيرة، أوقدُ نار حطب صغيرة تقيني الزّوّار.
الدرب الأخير مفتوح على منحدر بثلاثين متراً في شكل صعود إلى الجُلجلة. كان الانحتات من العنف إلى حدّ أنّه جعل العلامات المنقوشة على مقبَضَي درّاجتي تنطبِع على كفّيّ. وصلت إلى وسط قرية تاكسيمو، وأعصابي خرق بالية. ولكي أخفّف عنّي، أشبعت بالشّتائم موجيكا.
بصرف النّظر عن وفرة الأكل، يُخيّم هنا جوٌّ من مخيّم اعتقال، ربّما بسبب اكفهرار التّيغة، وملمح وجوه مضيفيّ المشوّهة. والفارق بينه وبين السّجن أنّ النّاس هنا جاؤوا يكابدون عملهم ووحدتهم بمحض إرادتهم، يغريهم أجر يفوق عشر مرّات متوسّط الدّخل في روسيا.
لم أحمل معي أيّ زاد، لأنّي كنت أنوي التزوّد هنا. عليّ إذن أن أقطع من الغد مرحلة بمسافة أربعين كيلومترًا دون أن آكل شيئًا منذ صبيحة الأمس، وفضل ذلك على الأقلّ أنّه يجعلني أتقمّص ظروف هارب جائع ولو لبضع ساعات.