عندما وطئتُ الأرض قرب البحيرة، لاحظت أنّه اختفى. تبخّر في الضّباب. تحلّل في السّماء. آثار دببة تمتدّ على طول خطّ ارتداد الماء، حيث الرّمل صلب، وتمرّ أمام إحدى محطّات المحميّة الطّبيعيّة: ستّة أو سبعة بيوت من الحطب وبرج مراقبة. استقبلتني نينا، روسيّة في الخمسين ذات بنية لاعبة قوى. تعيش وحيدة، هجرها كلّ من كانوا يعيشون هنا. تحرس.
بيد أنّها اليوم تنتظر زيارة: صيّادون من موسكو أرست سفينتهم (باخرة حربيّة قديمة) على بعد بعض أقلاس من الضّفّة. دعتني نينا إلى الإجهاز على زجاجة فودكا. قرعنا كأسينا، على نخب البحيرة بالنّسبة إليها؛ أمّا أنا فعلى نخب الصّيد وخاصّة حملة مناهضة تعاطي الكحول التي بدأت في إيركوتسك منذ أسابيع. والزّاكوسكي شرائح زنجور نيّء. ثمّ وضعت نينا على الإلكتروفون سمفونيّة فالس لشترواس. ورقصنا بين صناديق الأسماك الفضّيّة المركونة إلى الحائط. كانت سعيدة، حارسة البحيرة تلك. على جدار الدّاتشا، في هيئة ورق مرسوم، جداريّة كبيرة، بكنيسة ذات قباب بصليّة. التحق بنا الموسكوفيّون.
- لنذهب إلى الصّيد يا فرنسيّ! اقترح أحدهم.
تزلّقت بنا الزّوارق في متاهة المستنقعات. كان الضّباب قد انقشع، والشّمس قد انحدرت خلف الذّرى العالية لبورياتيا. شقّ جؤجؤ الزّوارق انعكاسها على صفحة البحيرات الشّاطئيّة. نزلت السّكينة. والبعوض أيضًا، واللّيل، برخاوة. تعالت وشائح سديم بخاريّ فوق المستنقعات. كانت تتنفّس، فهي حيّة. أحيانًا تقفز من الماء سمكة. كنّا قد اصطدنا حتّى الآن أربع سمكات: زناجير بمناقير تماسيح تتلوّى في جوف الزّورق. ونسمع صفير مغارف الصّيد التي يرمي بها الموسكوفيّون. فجأة كرهت الصّيد. هدوؤه الظّاهر، وتلك السّاعات الفاترة على سواحل باهتة، وجهر الصّيّادين بإيمانهم بجمال العالم، وأخيرًا الإنْشاب الدّامي بالخطّاف لسمك أنيق كان يهمّ بالالتحاق بحسنائه في منعرج قناة.
ولكن بما أنّي جائع، وهو ما يجعل المرء منافقًا، لم أدِنْ ولم أرفض الدّعوة إلى العشاء في باخرة حربيّة. على متنها: فودكا، جنزور، فودكا، جنزور، فودكا، جنزور، وفي النّهاية، لأنّنا كنّا مع أغنياء موسكوفيّين: زنجور، ميرلو فرنسيّ، زنجور، ميرلو... أعلنت انسحابي حين أراد الرّوس أن أجرّب الفودكا بالحليب. عدت في زورق، وحدي مع نينا التي كانت تجذّف بعضل قويّ نحو قريتها الخالية. قالت لي:
- أناس كثر على هذه البحيرة.
في صبيحة اليوم الموالي، ولكي أتجنّب ضفّة الحجارة الملساء، تسلّقت مسربًا باتّجاه الجبال. صعدت طيلة أربع ساعات عبر التّيغة. عصل، ركام حجر مطحلب، جذوع عملاقة: غابة لأجل الجنّيّات. غير أنّ الثّنيّة تنحرف بي إلى الشّرق. كانت البحيرة ورائي. ما تخيّلته مسربَ انعطافٍ بدا أنّه يحملني إلى الممرّات الجبليّة التي تفصل ساحل الوادي عن بارغوزين على مسافة أربعين كيلومترًا من شرق الضّفّة. في ارتفاع ألف متر، بعيدًا عن البحيرة، عدت أدراجي، وأنا ألعن الصّيّاد المحلّيّ الذي كان حاضرًا على الباخرة، في مأدبة مساء أمس، ولكنّه كان قد أفرط في السّكر لم يقدر معها أن يمدّني بمعلومات دقيقة عن الطّريق التي ينبغي اتّباعها.
نهار قادم إذن، على الحجر الأملس المدوّر للضّفّة. بعد الظّهر، اصطدمت بعائق: جانب الصّخر الأسود يغوص مباشرة في البحيرة. انعطفت حولها من فوق متسلّقًا مائة متر منزلقًا مغطّى بالجذور، ثمّ سرت بمحاذاة نوع من الشّرفة النّباتيّة تفضي بشكل عموديّ إلى مياه البحيرة. دفعت إلى الفرار دبًّا - الثّالث - كنت أسمع تراجعه المفرقع ويدي على صمّام إطلاق شمروخي. كان فوقي مباشرة، حيث يميل المنحدر ويلتقي بسطيحة. تأمّلت البحيرة من مكان تكسوه الحجارة.
بعدها، لقاء رابع. أرعبني. فرّ الدّبّ متسلّقًا التّلعة التي تطلّ على الشّاطئ. نكص على عقبيه وسمعته، دون أن أراه، يمرّ فوقي بخمسة أو ستّة أمتار، ويواصل طريقه نحو الشّمال. استدرت واستأنفت سيري. غير أنّ ثقله على شفة التّلعة أثار انزلاقا صخريًّا، وتخيّلت ببلاهة خلال جزء من الثّانية أنّه ينحدر من الشّرفة كي يهاجمني من خلف. أطلقت صرخة، ووضعت إصبعي على الصّمّام. ولكن لم يكن هناك سوى الضّفّة، الفارغة. وأنا، المثير للسّخرية.
في الأيّام التّالية، لم أكفّ، بسبب الانفعال القويّ الذي عشته، عن قرع جفنتي. صار الجوّ حاميًا والشّمس ساطعة. نزعت ثيابي. في النّهار، لم يعد لي سوى شاشي معقودًا حول حزامي وقبّعتي المرشوقة بريش نسر. كلّ خطوة عسيرة. ينبغي حسن تصويب الرّجلين على الحجارة الملساء الغليظة. أتقدّم ببطء شديد، وأنا أضرب جفنتي دون توقّف وأنشد شعر بيغي. لا أدري لماذا، ولكن هو الذي يحضرني. ربّما بسبب البحيرة التي تشبه السّهل. "تظاهرنا بأنّنا مثل رحّالةٍ مَرِح! لا نتقدّم كلّ مرّة إلا خطوة واحدة! لا نتقدّم كلّ مرّة إلا خطوة واحدة!" ذلك ما كنت أزعق به وأنا أقرع جفنتي.
فجأة أحسست أنّ ثمّة شخصًا ما. آدميًّا. أدركته حواسّي قبل أن يقبله عقلي. توقّفت، دون أن أكفّ عن القرع. "تظاهرنا بأنّنا مثل رحّالة مرح!" فتاة. شقراء ذات عينين زرقاوين. ترتدي فستانًا ذا لون فاتح، وتحمل على ظهرها حملا لا يُصدّق، وتنتعل جزمتين. تسمّرت مثل تمثال بين صخرتين وشخصت فيّ ببصرها. الذي رأته شخصٌ عارٍ بقبّعة بالرّيش يقرع جفنة ليوقّع صرخاته. بدت مرتعبة. خجلت من نفسي، ثمّ من خوفها لأنّي لأوّل مرّة في حياتي أبعث الخوف في عيني امرأة. جعلت أهدّئ روعها. تقدّمت خطوة. تراجعت. كارثة. لم أشعر قطّ بالاضطراب كما في تلك اللّحظة. أهب عمري كلّه لأجل سروال. سألتها عن اسمها. لم تجب. خلعت قبّعتي وابتسمت ابتسامة عريضة. أشاحت برأسها وتراجعت إلى صخرة مسطّحة. أنا تافه. أخيرًا شعّت بذهني فكرة:
- لا تزال هناك أجراف من جهة الجنوب؟
- كثيرة، لقد مررت من فوق...
تكلّمت، لقد نجحت. قالت لي في بضع كلمات إنّها رسّامة، وإنّ ما تحمله على ظهرها هو محمل لوحاتها، وإنّها انطلقت من بارغوزين. وتصعد الضّفّة باتّجاه الشّمال، وعندما يعجبها مكان ما، تجلس على صخرة وترسم.
كنّا نتحادث واقفَين، على مسافة بيني وبينها. كنت سعيدًا جدًّا بلقائها حتّى إنّي عرضت عليها أن نجلس على الشّاطئ الرّمليّ.
- كلّا.
- يمكن أن آخذ لك صورة إذن؟
- لا، لا!
وددت أن أشرح لها أنّ سلافومير رافيتش صادف هو أيضًا فتاة تدعى كريستينا، بولنديّة، فارّة، وتائهة في منطقة بيقال، وأنّها صارت أختًا للفارّين، فأخذوها معهم حتّى صحراء غوبي حيث ماتت من شدّة التّعب. ولكنّها سوف تتّهمني بالجنون، وأنا لا أريد بشكل خاصّ أن أزيد الأمر تعقيدًا. سألتني:
- هل الوادي المقبل سهل العبور؟
- نعم، قلت. الماء حتّى الحزام، لا أكثر.
- شكرًا. ينبغي أن أذهب، إلى اللّقاء.
بخطوات دقيقة، دارت حول كتلة الصّخور التي أشغلها وابتعدت منكّسة الرّاس في اتّجاه الشّمال. رأيت طائفي البيقالي يتوارى. "الفتاة التي تخاف الرّجال". وأنا الذي يخاف الدّببة. لكلّ واحد ذئابه.
أحسست نفسي فجأة وحيدًا تحت الحرّ اللّعين لشمس المعتقلات تلك. أفكّر فيها، وأنسى بيغي. استأنف بأسى مشيتي العرجاء. ثمّ اصطدمت بالجرف. كان ذا هيئة سيّئة: جانب رماديّ بذيول داكنة، ترتمي عموديًّا في البحيرة. لا شكّ أن طولها ثلاثون مترًا. أحاول المرور من فوق. أتسلّق مرتفعًا مائلا ذا أشواك لا ينفكّ يصعد. بعد ساعة، أوقفني نتوء عموديّ. نزلت من جديد بحذر شديد لأنّ السّقوط هنا قد يكون الأخير.
اخترت الحلّ الوحيد: العبور بمحاذاة قدم الدّعامة. دخلت البحيرة عاريًا تمامًا، والكيس على رأسي. دعوت السّماء ألا يكون هناك رسّامات شابّات أخريات في الجوار. الماء يصل إلى ركبتيّ، ثمّ إلى حزامي، ثمّ إلى رقبتي. قضّيت ساعة ونصفًا لقطع الكيلومتر الذي يحتلّه الجرف. من أقسى الكيلومترات في حياتي. كنت أزرق من شدّة البرد. غربت الشّمس عن يميني. حلّقت نوارس فوقي. لم أستطع كبح قرقفة أسناني. أحيانًا، كنت أقف على نتوء صغير من الجرف كي أعيد الدّم إلى رجليّ. كنت مثل عصفور وقع في فجّ سور. الأمر الأصعب هو العودة إلى الماء. بلغت أخيرًا شاطئًا ذا أحجار ملساء يشقّ وادي مالينكي شيريمسخانا، الذي عبرته، مجمّد العروق بالبرد. في تلك اللّيلة، لم أتدفّأ.
أنأى من ذلك، فيما بعد، لقيت الصّيّادين الموسكوفيّين. كانت باخرتهم الحربيّة راسية أمام كوخ يقيم فيه زوج من البوريات. ركبت الباخرة في آخر العشيّ كي أعبر باتّجاه الغرب قناة بطول خمسة كيلومترات تفصلني عن شبه جزيرة سفياتويْ نوسْ، وهي رأس صخريّ يمتدّ داخل البحيرة موصول إلى السّاحل بسهم رمليّ متّجه نحو الجنوب الغربيّ. وممّا زاد العبور سرعة أنّ قارورتين فظيعتين من نبيذ مينيما بـ45 درجة تمّ الإجهاز عليهما. كان النوتيّة يروون لي حكايات غرق. ليس صحيحًا إذن أنّ بيقال "لا يحمل روسًا أبدًا" (جول فيرن، ميشيل ستروغوف).
تمّ إنزالي في قرية كوربوليك في آخر النّهار. دفعتني غريزتي إلى عدم البقاء فيها. في ذلك الضّياء المسائيّ الذي ينتمي إلى سيبيريا، عبرت غابة، وسرت في ثنيّة مصحوبًا بكلب أبيض يعوزه الحنان، ويحسّ فيّ دون ريب مموّن مداعبات. اجتزت دربًا جبليّا صغيرًا فوق علوّ رأس. وغدًا، أنوي بلوغ لسان الرّمل الذي يربط شبه الجزيرة تقريبًا بالقارّة. خيّمت تحت شجرة صنوبر، أمام البحيرة، مع الكلب. وفي الصّباح لم يعد له أثر.
تعاقبت الخلجان، بوجود كفر صيّادين أحيانًا معتشٍّ في عمقها. اعترضني هناك روس يبدو عليهم الحزن. وأنا أزداد اقتناعًا بأنّ من يجاور ارتداد بحيرة ينتهي به الأمر إلى الإصابة بالكآبة، فتغدو حياته عندئذ، مثل طُحلب، نهبًا لهدهدة تيّار الأيّام.
عبر تيغة شبه الجزيرة، وصلت إلى سبيل يقود إلى تومبولو (لسان رمليّ يربط الجزيرة بالسّاحل). هاجمني البعوض. جررت منه معي حجابًا سميكًا. لاحقني بالمئات. اضطررت إلى الفرار من أثر مروري نفسه. في كلّ توقّف، يطلق الفيلق هجومه. ممنوعًا من النّوم، مدفوعًا إلى الأمام، ورأسي محميّ تحت ناموسيّتي، قطعت في مسيرة واحدة خمسة وعشرين كيلومترًا، قبل أن تنقطع التّيغة فجأة لتسمح بأن ينفتح في الأفق شريط الرّمل الضّخم الذي أروم بلوغه، كطريق طبيعيّة نحو القارّة. كانت الرّيح تكنس الشّاطئ، والسّماء، وبعوضي. اندفعت نحو التّومبولو.
على يميني، ترقد البحيرة، في شبه مَوات. وعلى اليسار، سباخ خضراء ليّنة حيث يتعالى صياح الطّيور المائيّة. وأمامي، سهم الرّمل المنحرف قليلا بفعل خداع بصريّ، يسحب خيط الأفق حتّى التّواري. أمشي على الشّاطئ الخشن. أتوقّف كلّ ثلاث ساعات لأسخّن برغلي على نار حطب عائم خفيفة وألتهم سمكة مجفّفة. رمل منطقة الجزر في لون ورد بارْما. سرت بخطو واسع، وأنا في حال غريبة من الاغتباط، ربّما ولدّتها عظمة المكان، وتراجيديّة الضّوء الذي ترسله البحيرة إليّ ومساحة السّماء شّاسعة الأبعاد بشكل غير عاديّ.
أضحك، أتقدّم، أرمي للبحيرة مقاطع شعريّة. يتنامى بداخلي تبلّد الحسّ المعهود لدى المتسكعّين اليابانيّين من ذوي التّقاليد الزِّن. ويتمثّل في ترك الأحاسيس تخترق أجسادهم دون أن تستقرّ أبدًا، وبلوغ مرحلة الكتامة، على غرار طائر القِرلّي الذي يستطيع أن يغوص في الماء ويخرج منه ناشفًا. بذلك فقط يمكن أن تولد في الرّوح سكينة نهائيّة. القبول التّامّ للعالم. ليس قبولا سلبيًّا، بل ممتنعٌ عن الانفعالات. متصالح. ربّما كانت قلّة غذائي منذ أيّام هي سبب هذه الأحاسيس الهوائيّة التي تصعد بداخلي، دون سابق تحذير.
في الاستراحة الموالية، وفيما كان البرغل يُطبخ، رأيت ريشات عصاي ترفرف في الهواء. منذ بضعة أسابيع، كنت أرفعها كأعلام على طرف العصا. كانت تحتفي بالفضائل التي أؤمن بها: ريشة النّسر كناية عن السّرعة، ريشة الغراب عن الذّاكرة، وريشة النّورس عن المرح.
بيد أن فتنة تلك السّاعات التي قضّيتها على التّومبولو، قطعتها سباخ بارغوزين. فقد أخطأت حين غادرت سهم الرّمل إذ سرت مباشرة نحو الوادي. جهدت طوال ثلاث ساعات عبر منخفض أرضيّ واسع ولم أنتزع من امتصاص المستنقع سوى ما دون كيلومترين. أزهار السّوسن التي تكلّل ببهاء ذرى نتوءات عشب هي وحدها التي تسلّ فحمتي، فبعد أن بلغت البهجة المطلقة على التّومبولو، ها أنذا هنا، في هذا المكان الموحل، أنفجر غضبًا. أظلّ واقفًا، قائمًا في الوحل، وأصرخ بشتائم كريهة. ضدّي، ضدّ البحيرة، ضدّ مستنقعات العالم كلّه... ثمّ أستأنف السّير في الماء الذي يصل حتّى ركبتيّ.
على الضّفّة اليسرى من وادي بارغوزين، الذي عبرته على عبّارة، تترامى المدينة الصّناعيّة ذات الاسم نفسه. تجاوزتها لأضرب خيمتي، عندما هبط اللّيل، على أرض براح، قدّرت أنّها فرجة هامّة. استقبلني الفجر من الغد، مستلقيًا وسط مدرج مطار.
يوما مسيرتي الأخيران على حافة البحيرة انسابا في الضّباب. طيور بلشون تحلّق تقريبًا تحت خطواتي، تاركة آثارها الرّونية ذات الفروع الأربعة: ψψ. بلشون فايكينغ. العقبة هي أن يتّضح أنّ الحيوان دبّ.
رأيت جثث فقُمات مسلوخة على الصّخور تلتهمها الدّببة وتنهشها طيور البلشون. أحيانًا تهاجمني خطاطيف البحر أو تزقزق بطاريق صغيرة عند اقترابي زقزقة تكاد تخلع حناجرها. كانت تذود عن فراخها. تعجبني تلك العصافير الصّغيرة التي لا ينتابها شكّ في قوّتها أيًّا ما يكن حجم العدو. وودت أن أقول لها إنّي لا أريد بها شرًّا. أقلّ ممّا أريد لبعض البشر.
عرضت لي ذات يوم قاعدة سياحيّة، مبنيّة على الشّاطئ، من ذلك النّوع الذي نجده في أوروبّا الغربيّة في الثّلاثينيات، بصبايا ذات قبّعات، وسيّدات ذات مباسم سجائر، ورجال يشربون الفرموت، إلا أنّهم هنا يشربون الفودكا. أمّا الباقي، فكلّه موجود. الجوّ الفاتر، هيئة النّاس على نمط فرجينيا وولف. وتلك الرّائحة الشّائنة الصّادرة عن البحيرة. دعيت قرب نار مخيّم. شربت الشّاي أمام نحو عشرة ممّن ينشدون الاستشفاء بالمياه الحارّة. بعضهم يبقى هنا لتناول المياه طيلة شهر. لا أستطيع فصل وتحويل عينيّ عن عيني كاتيا الحفيّتين. كانت متزوّجة من رجل موسكوفيّ ضخم متخم بالبورش. رافقتني إلى الشّاطئ الرّمليّ. زوجها يتابعنا من بعد كما في مسرحيّة فودفيل. خطونا بضع خطوات على الشّاطئ، أنا بريشي وعصاي، وهي في فستان أبيض. نصحتني بأن ألتقي بفلاديمير.
- هو رجل ظريف. يسكن منزلا بناه بنفسه، على حافة البحيرة، على بعد كيلومترين جنوبًا، لا يمكن أن تخطئه.
على أيّ حال، لا يمكن أن نخطئ الصّليب المغروز أمام البيت. كان فلاديمير يقطع الحطب قرب خيمة واسعة. استقبلني كما يُستقبل الغريب دائمًا في روسيا، أي أن يدّعي المرء أنّه ظمآن، ولم يذق الطّعام منذ تسعة عشر يومًا.
- ولدت في بارغوزين. أجدادي أسّسوا المدينة في القرن الثّامن عشر. كانوا مبعوثين من قبل القيصر. في البداية أمضوا الشّتاء هنا. وأنا قمت بإعادة بيوتهم مطابقة تمامًا لما كانت عليه، حسب الرّسوم التي عثرت عليها. أريد أن تعود أرواحهم إلى الحياة، هنا، على هذه الضّفاف. لقد انتهيت من ثلاثة مبانٍ، وغرزت الصّليب، وحوّلت مورد ماء. أنا الآن بصدد بناء كنيسة. تعال...
في الداخل، كانت العزبات مؤثّثة على غرار الأسلاف. حيّتنا امرأة وهي تخرج من الغرفة.
- زوجتي من أصول بولنديّة، هي عالمة بالجغرافيا. أسرتها نفيت هنا في عهد ستالين.
- فهمت، لأنّ بولندا...
- لا. لأنّ أهلها كانوا مؤمنين قدامى. وقد بقيت على دينها.
قلت: "هل سمعتَ بحكايات المؤمنين القدامى الذين فرّوا من معتقلات الغولاغ السّوفييتيّة؟".
- لا، ولكنّي لا أهتمّ إطلاقًا بذلك الماضي. ما أريده هو أن تقوم قبّة في شكل بصلة تطلّ على هذا الشّاطئ. ما زال ينتظرني عمل كثير.
التقطت صورة الوجه الجميل لفلاديمير، ليلتحق في بانتيون قلبي بقائمة الفارّين الطّويلة التي يؤويها. هو فرّ من قبح العالم الحديث ليلوذ بكون يتألّف من خمسين أَكْرًا يبنيها بيديه.
أمشي، أمشي، ذلك كلّ ما أتقن. وأنا أسير والبحيرةَ، مخيّمًا على الشّطآن، واصلاً بين الرّؤوس (تسمّى ميس miss بالرّوسيّة، ما يمثّل غايات سير جميلة). تجاوزت قرية ماكسيمينا، وواصلت حتّى غارياشي، وهو حمّام معدنيّ قديم في المرحلة السّتالينيّة. نصادف فيه مصابين يستشفون من داء المفاصل، وبعض قدماء الحرب المزدانة صدورهم بالنّياشين وتمثالا للينين لم تقع إزالته، تشير ذراعه بأبّهة إلى الجنوب، ممدودة منذ 1930، وهو ما يترك المصابين بالحَرَض ساهمين.
عند خطّ عرض مدينة أولان أودي، عاصمة بورياتيا، التي لم يعد يفصلني عنها سوى مائتين وخمسين كيلومترًا، غادرت بيقال باتّجاه الشّرق، نحو بحيرة كوتوكيل، الواقعة على مسافة بضع كيلومترات من بيقال. تهت نصف يوم في مستنقعات وغابات الضّفّة الشّمالية لكوتوكيل إلى أن اكتشفت مصحّة مهجورة تقريبًا، قدّمت لي فيها بابوشكا ذات بلوزة بيضاء طبق كاشا.
- ما تزال المصحّة تستقبل بعض المرضى، قالت. ولكن ما عدنا نتلقّى أيّ مساعدة من الحكومة. واليوم، من سوء حظّك، عزيزي سيلفان، أنّ كلّ المقيمين سكارى. لأنّنا نحتفل بعيد الماء.
سرت والضّفّةَ الغربيّة للبحيرة الصّغيرة. انفتحت فرجة، مملوءة بأنقاض مباني 1930: آثار سوفييتيّة. ثمّة رجل يتشمّس على حافة الماء. ليتوانيّ، نصف مجنون، ولكن ثمل بالكامل.
- سعيد أنّك فرنسيّ. أنت الثّاني الذي أقابله في حياتي. أنا وأنت لسنا مثل الرّوس!
أفادني بأن جزيرة منار التي تتوسّط بحيرة كوتوكيل تحوي أسس دَيْر.
- كان هناك ثمانية وعشرون راهبًا. ولكن ذات ليلة ربيعيّة من العام 1918، بعد الثّورة ببضعة أشهر، نزل البلشفيك في الجزيرة وأعدموهم رميًا بالرّصاص.
ولّدت فيّ حكايته رغبة لاعقلانيّة لزيارة الجزيرة، لأنّها بالضّبط الموضع التّراجيديّ الذي أروم الوصول إليه، فإذا بلغته، أحبّ أن أبقى بعض اللّحظات مغمض العينين قبل أن أبحث عن موضع آخر. عدت إذن إلى المصحّة بحثًا عن مركب. التقيت بأفراد عائلة صيّادين نائمين في أعشاب عالية، وهم في سكر طافح. منطقيًّا، كان عليّ أن أعود أدراجي فورًا. غير أنّي مددت دولارين إلى ساشا، الذي بدا لي أكثرهم صلابة. قلت له:
- هل بإمكانك أن تقودني إلى الجزيرة؟ خذ هذا من أجل البنزين.
- طبعًا.
ذهبنا للبحث عن محرّك في حجرة مهملات بالمصحّة. رافقتنا الزّوجة والأمّ والأخوات والحماة السّمينات مثل قِرب شنابس. كنّ ثملات جدًّا، يَجْسُسنني في الطّريق، فأتركهنّ يفعلن لأنّي لم أكن أفكّر سوى في الجزيرة. حملت صفيحتي البنزين. حمل ساشا المحرّك على كتفيه، وجرح أذنه بالمروحة، وأدماها كثيرًا. المركب الموعود عبارة عن زورق من خشب منخور. صعدت الأمّ، ولكنّها أخطأت اندفاعها فتجاوزت الزّورق ووقعت في الماء من الجهة الأخرى. إنّ فيلَ بحر، أسمنه طول حبسه، أخفّ منها. كان ينبغي دفع الزّورق طويلا في الحمأ للوصول إلى المياه. وهي عمليّة صعبة لأنّ الأمّ أصرّت على أن تكون صورة الجؤجؤ وكانت تثقله بوزنها المرعب. بدأ المطر ينزل، وبدأت البنت تبكي.
أبى المحرّك أن يدور. وما زال ساشا ينزف. كانت الرّحلة كارثة، ولكنّ الجزيرة تنادينا لسبب غامض. أخيرًا سار بنا الزّورق، وكُفّته على عشرة سنتمترات من الماء. حملنا معنا موجات ضخمة. جزيرة المنار تقترب ببطء. والمطر لا يزال يهطل. وصلنا إلى الرأس الجنوبيّ بمحاذاة السّاحل. نباتات كثيفة ترسم ستارًا داكنًا على الضّفّة، يخرقه أحيانًا وميض أبيض لشجرة سندر عملاقة. أحسّت الأمّ بوجع في قلبها. قميص ساشا أحمر بالدّم. أخيرًا، صليب أرثوذكسيّ بارتفاع أربعة أمتار مغروز في آخر رأس يعطي إشارة الرّسوّ.
هنا تتيه الطّريق. هنا دفع رهبان معزولون في سكون جزيرتهم ثمن جنون أكتوبر، وأصابهم ارتداد صدمة ثورة لا تعنيهم، ولدت على بعد ستّة آلاف كيلومتر. وهنا صلّى رجال دين قبل أن ترديهم رصاصات المحرّرين. بقينا واقفين في الأعشاب البرّيّة. أشجار أرز زرقاء تتدلّى في منحدرات الجزيرة المطلّة على التيّغة، تلك الغابة الشّماليّة التي لا تستمدّ قوّتها من الرّطوبة، بل من الضّوء. بدا التّأثّر حتّى على ساشا وأسرته، فالعظمة تزيل الثّمل.
العودة تبعث على الرّثاء. تعطّل المحرّك لنضوب البنزين على بعد كيلومترين من السّاحل. جذّفت كالأصمّ لأعود بالسّكارى الثّلاثة الذين ناموا في عمق الزّورق. هبط المساء. بعد النّزول، سرت أربع ساعات في العتمة باتّجاه الجنوب، كي أطهّر جسمي من تلك القذارة.
* مقتطف من كتاب "محور الذئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي