"محور الذئب" (07): أرض بيضاء مليئة بالجليد والدببة والسجون السياسية

29 يوليو 2023
دبّ كامتشاكا الروسي في أحد الأنهار باحثاً عن السمك (Getty)
+ الخط -

سيفيروبايكالسك خيّبتَ ظّنّي كثيرًا. كنتُ أتوقّع مصيفًا بُحيريًّا على غرار ما تُحسِن أوروبا الوسطى تقديمه: شيء مثل إنترلاكن وبيلّاجو، ولكنّي اكتشفتُ مدينة خرسانيّة لا تتعدّى صلتها بالبحيرة ساحلًا صناعيًّا، ورصيف تفريغ، وساحة سلاح بثكنة جنود. من حُسن الحظّ أنّ في طرف المدينة "نادي يخت" يحوي بعض مراكب مُجهّزة بأشرعة العاصفة وأربعة أو خمسة مراكب شراعيّة جميلة، تحت ظلّ تخشيبة من الصّنوبر. قضيت هناك يومَين في مثل فتور البحيرة.

في خطّ العرض ذاك، لا يبلغ عرضُ بيقال سوى أربعين كيلومترًا. وسيفيروبايكالسك تقع عند بداية الضفّة الغربية، في الرأس الشمالي الجنوبي للبحيرة. أعتزم السّير بمُحاذاة الشّاطئ، من الشّمال إلى الجنوب، في الجهة المقابلة. أبرمت صفقة مع ساشا، أحد عمّال نادي اليخت: أتنازل له عن درّاجتي مقابل عبور على متن مركب شراعيّ إلى الضفّة الأُخرى. اتّفقنا أن ننطلق في اليوم المُوالي. عند المساء، جعل كلّ أعضاء الـ"كلابْ" جوليا ونتاليا وجورجو وأندراي وساشا، المجتمعين في جوف المركب الشّراعيّ ناديجدا (الأمل بالرّوسيّة)، يشربون على نَخب حظّنا الجميل. ونحن نُمارس فنّ النَّخْب الذي كرَّسه الرّوس في شكل حلقة مُفرغةٍ، ازدردنا تباعًا شرائح نقانق دسمة وكؤوس فودكا: الأولى كي نطفئ النّار التي تُشعلها الثّانية، والثّانية كي نُذيب الذّكرى الدّهنيّة التي تُخلّفُها الأولى. أن تُمارس تمرين النّخب الرُّوسيّ معناه أن تعرف كيف تستعمل المِسحاج والمزلِّق بالتّناوب.

جورجو، قائد النّادي، باركني على طريقة شامان: أربع قطرات من الفودكا مُلقاة نحو الاتّجاهات الأربعة، قطرتان على صارية السّفينة، قطرة على جبيني والبقيّة في كؤوسنا. 

- "ما رأي الفرنسيّين في سيبيريا؟". سأل أندراي، ربّان ناديجدا. 

- "لهُم عنها صورة سلبيّة"، قلت، هم يرون أرضًا بيضاء، مليئة بالجليد والدّببة والسّجون السّياسيّة.

- "هذه نظرة جزئيّة جدًّا"، قال الرّبّان. 

- "أعرف". 

- "يُوجد أيضاً بَعُوضٌ ومستنقعات"، أضاف. 

- "والنُّعَرات"، قال ساشا. 

- "وما رأيهم في الرّوس"، سأل الرّبّان. 

- "يرون أنه الشّعب الوحيد في العالَم الذي يسير بهمَّة نحو القرن التّاسع عشر"، قلت. 

- "وأنت؟". 

- "مثل مدام دو ستاييل". 

- "لم أقرأها". 

- "الرّوس لا يبلغون هدفهم أبدًا، لأنّهم يتجاوزونه دائمًا".

- "هذا يُناسبنا".

اصطدم مشروعي بالسّير في محاذاة الضّفّة الشّرقيّة بعائق إداريّ. جزء من السّاحل مصنّف محميّة طبيعيّة، ولا بدّ من الحصول على ترخيص للدّخول إليها، بالرّغم من عدم وجود أيّ شخص يراقب مدخلها. وساشا يصرّ على ضرورة أن أكون منضبطًا. غير أنّ غينادي أ.، مدير مضلّع التنوّع البيولوجي (ذلك هو اسم المحميّة الطّبيعيّة)، منحرف إداريّ خطير بشكل خاصّ، ولم يمنحني البروبُسْكات  إلا بعد نهار كامل من التوسّلات. هو ينتمي إلى تلك السّلالة من البيروقراطيّين المولودين من زواج المحبرة بالجفّاف. بيروقراطيّون غوغوليّون يعرقلون بصفة مخجلة مسيرة روسيا. استشطت غضبًا وفي ذهني أنّي سافرت تحت راية الحرّيّة وإذا بي أجدني أتخاصم مع متمسّك بالمسائل الإداريّة الدّقيقة من أرذل النّاس، يشترك مع الجرذان في خاصّية التغذّي بالورق.

سيلفان تيسّون - القسم الثقافي
سيلفان تيسّون

من الغد أبحرت برفقة ساشا على متن مركب كاسّيليا باتّجاه السّاحل الشّرقيّ. عبرنا البحيرة ببطء. في الضّوء الألمنيوميّ، كان الماء رماديًّا ضاربًا إلى الزّرقة مع انعكاسات زئبقيّة. ألِأنّ الماء مَلْوَنٌ في حدّ ذاته لم يعُد يوجد من يرسم البحر، ولا من يرسم الجبل؟

لاحت الضفّة الأُخرى بسرعة، بشطآنها الرّمليّة التي تقطعها رؤوس صخرّيّة. الكتلة الصّخريّة التي تحفّ بالضّفّة انهارت مباشرة تقريبًا في البحيرة؛ لم تُبق منها غير سطيحة ببضع مئات من الأمتار بين المُنحدرات الأُولى والشّاطئ. أخبرني ساشا أنّ في ناحية الجنوب مُنحدرات صخريّة تنزل عموديًّا في الماء، وأنّي لن أستطيع المرور.

غام النّهار. صعَدتْ سُحبٌ ذات كثافة قُطنيّة إلى السّطح، وانزلقت على الصّخور، وتدحرجت فوق ذُرى السّنادر التي يتمطّط ستارها في خطّ مستقيم مُوازٍ للبحيرة. يُخيّم مناخ لوحةٍ منقوشة على الفولاذ. والشّمس، قبل أن تتوارى، نجحت في اختراقها ووضعتْ مجدها على كلّ ذلك العِظَم. هذه هي المرّة الثّانية التي أرى فيها بحيرة بيقال، ولاحت لي من جديد في ضوء إمبراطوريّ مكلّل بحِزَم من الأشعّة. ألقى ساشا المرساة في جون مُهمل. قرّرتُ أن أبيتَ ليلتي في المَركب. غدًا، أنزل وأقصد إلى الجنوب، مشيًا، وحيدًا.

ثلاثمائة وستّة وثلاثون! ذلك هو عدد الأودية التي تصبّ في بيقال. سرت من الغد على السّاحل الرّمليّ وأنا أفكّر في ما يمثّله ذلك العدد من معابر ينبغي اجتيازها. عندما أعود إلى باريس، سأجلس في شرفة بار لأتثبّت من هذا العدد على خريطة، وأنا أشرب كأسًا من البيرة، أو من نبيذ غامي يكون نديًّا بشكلٍ يُخلّف بُخارًا على الكأس.

المطر يهطل على البحيرة وقلبي حزين. لا وجود لفرح تحت الماء. يكفي أن ننظُر إلى حُزن نظرة السّمك. سرتُ على شاطئ من الرّمل الورديّ حوَّله وابل المطر إلى لون خبّازيّ. تركتُ ساشا في السّادسة صباحًا. أوصلني إلى الشّاطئ على زورق بالمجذاف. بحثنا معًا عن حطبة صنوبر جيّدة، برَيتُها بخنجري. ثمّ عانقني وقال: "راسِلنا"، وركب زورقه وتركني وحيدًا مع ارتداد الموج. رأيتُه يعود إلى كاسّيليا، فنشر شراعها ومضى: بُقعة بيضاء تبتعد على جُرف البحيرة. بدأت أسير على الدّرب نحو الجنوب، وها أنذا أجتاز أوّل معبر والماء يبلغ نصف قامتي.

دام نزولي إلى حافة بحيرة بيقال أحد عشر يومًا. لم يكُن السّاحل خاليًا تمامًا. أكواخ حُرّاس المحميّة الطّبيعيّة، الواقعة على مسيرة يومين أو ثلاثة بين بعضها بعضًا، والتي تستقبل أيضًا عُلماء أرصاد جوّية وعُلماء أسماك، تصطفُّ على طول الشّاطئ. في الكوخ الأوّل الذي توقَّفت فيه، غير بعيد عن شينانغدا، كان أربعة رجال يتغدَّون بشحم الخنزير والفودكا. بافيل وفاكلاف اللّذان آل بهما أمرُهما هنا خلال بناء "بام" ولم يُضيفا إلى ذلك شيئًا. يوري، شاب بورياتي في الثّامنة عشرة. والرّابع يكنّى بـ"194". 

- "وشمتُ تاريخ ميلادي على سُلامى أصابع يدي اليسرى. ذلك هو المعمول به في السّجن. ولكن ذات يوم قطعوا خنصري بفأس ولم أحفظ الرّقم... ما عدت أتذكّر: هو بين صفر وتسعة من سنة أربعين... الباقي مائة وأربعة وتسعون".

دعاني "194" إلى زيارة مبعث فخره: قطيع من أيائل الرّنّة الأليفة ذات الحطب المخمليّ. كانت تسرح في مرعى غير بعيد عن الوادي. انجذبت إلى تلك الحيوانات الموتورة قليلًا، التي صنعت قوّة الشّعوب الشّماليّة ولزمت كوابيس ملوك سيتيا.

وادي شينانغدا كان من القوّة بحيث يصعب أن أقطعه عند مصبّه. كان لزامًا عليّ أن أصعد ثلاثة كيلومترات باتّجاه عاليته في التّيغة كي أتمكّن من عبوره، والماء في مبلغ صدري. على حافة البحيرة، تقدّمت ببطء شديد. لم تكن الأرض مناسبة: فقد نابت عن الشّواطئ الرّمليّة مساحات مترامية من حجر أملس مُدوَّر يعذّب العرقوبين. عند المرور، نتوءات يقضم أكاليلها ماء البحيرة، تكدّسات كتل ضخمة ترغم على التسلّق. في قمّة تلعة ارتداد الأمواج حصًى يُعطّل مشيي. بقي حلّ التّيغة: يمكن اتّباع الضّفّة، خلف حافة الشّجر، على طريق حيوانيّة رسمتها الأيائل والثّعالب والدّببة، ورُسمت مثل ثنيّة عبر الطّحالب وأشجار العنب البرّيّ. ولكن، غالبًا ما تسدّ المرور أجمةُ أشجار صنوبر صغيرة، أو تشابك جذور أشجار أرز. عندئذ لا مفرّ من الزّحف تحت تلك الأجنحة. غير أنّ الإرهاق سرعان ما يفرض عليّ أن أعود إلى الرّمل أو الحجارة الملساء. هكذا كنت أتأرجح طيلة عشرة أيّام بين اليقين، حين أكون على الشّاطئ، بأنّ مشيتي ستكون أسرع في الغابة، وبين الاقتناع، حينما أتقدّم في التّيغة، بأنّ الشّاطئ أكثر راحة. 

دون عصاي الصّنوبريّة، لا مجال للمشي. هي سندي في كلّ خطوة أخطوها. تُساعدني على سبر أعماق المعابر، وتجاوزها. ربطت في طرفها عدّة لفائف من قشر السّندر كنتُ حشوتها بحزاز الصّخر والطّحالب، ورشقتُ فيها بعض الرّيش. هي تُشبه في مجملها صورة طوطميّة بدائيّة، ولكنّها في الواقع سلاحٌ ضدّ الدّببة. السّندر سريع الاشتعال، عند أوّل هجوم يمكن أن أوقد مُشاقة الكتّان تلك وأحوّل عصاي الألبيّة إلى شمعدان كبير. هي تقنية مُغاوٍ سيبيريّ نقلها إليّ ساشا مع بعض التّوصيات الأُخرى عند الإبحار. 

غلاف الترجمة العربية للكتاب
غلاف الترجمة العربية للكتاب

علّقت أيضًا في العصا، تحت حشوة الطّحلب، شمروخ استغاثة من الباكليت على ملك البحريّة الرّوسيّة، هديّة من جورجو، قائد "نادي اليخت". أسطوانة بطول عشرين سنتمترًا بسدّادة تحمي صمّام الإطلاق. يفترض أن يُحدث الشّمروخ سهامًا ناريّة. وقد جُعل للبحّارة الضّاليّن؛ ولكن يمكن أن يُرهب الدّببة. خشيتي الوحيدة مُتعلّقة بسنّ الشّمروخ: 1966. المرحلة البريجنيفيّة. من المحتمل جدًّا أن منظومة إشعاله، بعد مرور أربعين عامًا، لا تشتغل، والأدهى أن ينفجر الشّمروخ بين يديّ، ويسحقني، ولو أنّ في ذلك على الأقلّ مزيّة صُغرى هي تجنيبي ناب الدّبّ. ما زال الجلجل المُعلّق في جرابي يرنّ. لكي أزيد في إنتاجي الصّوتيّ في نَبْت الأحراج ذات الدّببة، أنقر جفنتي المعدنيّة بعود حطب. 

أجتاز كلّ يوم نتوءين صخريّين أو ثلاثة، تبدو عن بعد مثل منقوشات صينيّة، بشلاّلات تنّوب سوداء تغطّي فوضى الصّخر. النّتوءات تأتي في مؤخّرة جوينات رمليّة صغيرة أو خلجان ذات حجارة ملساء تعلن لرجليّ عن العذاب القادم. أحيانا يطلّ المنحدر الذي تشغله الغابة على البحيرة من علوّ بعشرة أمتار. أتقدّم سعيدًا وحيدًا. سعيد لأنّي وحيد. لي البحيرة، وهذا يكفيني. عندما أملُّ من تأمُّل السّطح، ألجُ الغابة. الضّوء يلتصِقُ في الأرز والسنّجر أو التنّوب بشكل مختلف. في الطّريق الحيوانية التي أتبعها، لاحظت فضلات طريّة جدًّا، منقورة بشقوق حمراء تعشقها الدّببة.

أحيانًا، على شاطئ رمليّ نديّ، يُصادف أن أقفو آثارها طيلة ثلاث ساعات كاملة: بصمات مخلبيّة ضخمة لا تترك قدماي إلى جانبها سوى أثر خفيف. أن يسير المرء في ثنيّة دبّ، يعني أن يتملّكه إحساسٌ غريب بأنّه يوجد حيث لا ينبغي أن يوجد. عندما أتوقّف للاستراحة، ولو كانت قصيرة، أوقدُ نار حطب صغيرة تقيني الزّوّار. أضرمها بقشر السّندر الشّديدة الجفاف كي تشتعل بسرعة. وعندما أخيّم على حافة الشّاطئ، أُغالب نفسي على تمرين مُتعِب يتمثّل في تعليق كيس مؤونتي في قمّة شجرة، أبعد ما يكون عن خيمتي، حتّى لا تجذب الرّائحة الدّببة فتأتي لزيارتي. ما إن أضرب خيمتي عند طرف الغابة، حتّى أسمعها تجول بلا هدف كامل اللّيل في نبت الحراج، فيتسرّب ضجيجها إلى أحلامي الرّديئة. لا أنسى أن أعدّل مُنبّه ساعتي كي أخرج من ستار خيمتي كلّ ساعتين لأذكي النّار، الحامية، المُطمئنّة، الأبويّة، التي كانت شعلتها ذات يوم أوّل إلهة لدى البشر. 

بين تومبا ودافشا، ثمّ أبعد جنوبًا، بين دافشا وبرغوزين، لا توجد أيّ قرية، ما يحتّم عليّ أن آخذ معي غذائي، وأقطف عنبًا برّيًّا وكِشمشًا وأصطاد السّمك. أحمل معي شصوصًا ورصاصًا وسدّادات. مياه البحيرة وأوديتها سخيّة: حتّى من هم صيّادون فاشلون مثلي، أنا الذي لا يصبر إلا على المشي، يفلحون في صيد بعض الشّيء. ما أصطاده، أعدُّه على الطّريقة السّيبيريّة:

تنظيف السمكة ثمّ تقطيعها إلى قطعتين
دون إزالة الحراشف
فتح القطعتين وتمليسهما
تثبيتهما في عود تنّوب (بخرقهما)
وضعهما على ثلاثين سنتمترًا من نار حطب
تركهما تنضجان عشرين دقيقة واللّحم تجاه النّار.
يحصل لدينا عندئذ انطباع عامّ بالحصول على
نوع من السّمك مطبوخ قليلا من جانب واحد.

لي في كيسي ما يكفي لستّة أيّام: فواكه جافّة، شوربة مُجفّفة، نقانق بالجبنة، لحمٌ جافّ وجريش شوفان، هذه الوجبة التي يُسمّيها الرّوس كاشا، والتي كان إيفان دينيسّوفيتش، بطل سولجينتسين، يستقبلها كلّ يوم بهذه الكلمات: "آه، الكاشكا الطّيّبة!". في أغلب الأحيان، يكمّل سيبيريّ أصادفه في كوخ المحميّة الطّبيعيّة زادي، بإهدائي كليوغرامًا أو اثنين من السّمك المُدخّن ملفوفًا في أوراق قديمة من البرافدا يُساعدني نصّها في تحسين لغتي الرّوسيّة، وأنا أقضم اللّحم المُملّح.

اكتشفت معنى جديدًا لحياتي: أمشي طوال اليوم، أشرب ماء البحيرة، أُتابع سباق طيور البَلَشون على مستوى صفحتها، أصطاد سمكة، وأقضي دقائق طويلة في إعداده، ثمّ أبحث عن مكان أضرب فيه خيمتي. ومعنى اللّيل هو أن أرتاح من تلك الحياة الجميلة.

لم أسمع وصول زورقَي كيّاك. فاجأني صوت طبطبتهما. عندما دخلا حقلَ رؤيتي، وهُما تتزحلقان على الماء، يقودهما أنموذجان رائعان من الجنس البشريّ، لم أكن قد قابلت نفسًا آدميّة طيلة ثمانٍ وأربعين ساعة. الغريبان أشقران مديدا الطّول. مفتولا العضلات ذوا بشرة في لون العسل. بنت وولد. زوج من آلهة يونانيّين في هيئة حيوانين آدميّين رائعين. ليسا روسيّين فيما يبدو لأنّهما مُجهّزان تجهيزًا جيّدًا ولهما وجهان بالغا الملاسة. حادا ناحيتي، وقبل أن يرسُوَا، قالا لي بتلك الملَكة الطّبيعيّة التي يملكها الأميركان (فهما أميركيّان) في الهبّ إلى نجدة الإنسانيّة:

- "تحيّة أيّها الرّجل، هل تحتاج إلى شيء ما؟".

عندما يصل أميركيّ إلى مكان ما، لدينا انطباعٌ دائمًا بأنّه فريق نجدة. نزلا على الأحجار الملساء. تبادلنا التحيّة، ونحن سعداء بلقائنا. هو اسمُه براندان (اسم بحّار مِقدام! الرّاهب السّلتي الأيرلندي ذو المركب الجلديّ!)  وهي، هيتر. هما من كاليفورنيا، يجوبان بحيرة بيقال تجذيفًا. كانا رائعين حتّى إنّي للحظةٍ خجلت من قيافتي وهيئتي التي تُشبه هيئة أحد متشرّدي أوروبا العجوز. تفرّس براندان فيّ:  

- "رأيناك تمشي على الشّاطئ، هل تدري أنّك، بقبّعتك وعصاك، تُذكّرني بالذين كانوا يفرّون من معتقلات الغولاغ. هل تعرف المسير الطّويل؟".

كنتُ في حال من الذّهول منعتني من الإجابة. انحنى براندون على كيّاكه، فتح صندوقًا من البلاستيك مشدودًا إلى هيكله، وأخرج منه كتابًا. 

- "هذا ما أنا بصدد قراءته هذه الأيّام"، قال. حكاية سلافومير رافيتش، الهارب من سيبيريا... 

متأثّرًا قليلًا، مسرورًا بالإطراء نوعًا ما، شرحتُ لهما سبب رحلتي. هكذا، بفضل تحقُّق عفويّ لغاية مسعايَ، ها إنّ مُجذّفَي كيّاك أميركيّين من العصر الحديث يصلانني خلال لحظات بالفارّين في السّنوات المظلمة.

براندون، الذي لم يعدل عن نيّة مساعدتي، كرّر لي طلبه: 

- "هل تحتاج إلى شيء ما؟".

- "نعم"، قلت. لقد فقدت هذا الصّباح الدّسار الذي يجعل جلجلي المضادّ للدّببة يرنّ.

من صور الكادر - القسم الثقافي
تخطيط بالحجارة على الأرض، أحد الطقوس الشامانية في بورياتيا (Getty)

وجدتُ بسرعة حزقة في العدّة التي مدّاني بها، وتحتوي على أنواع مختلفة. افترقنا. ذهبا إلى الشّمال، على الماء. وأنا، إلى الجنوب، على قدميّ، بجلجل جديد، مستفيد سعيد بالنّزوع الطّبيعيّ الأثير لدى الأميركان لإنقاذ العالم. 

توقّفتُ ذات عَشيٍّ في محطّة كوردون للرّصد الجوّيّ. أعربت غالينا، البابوشكا التي تحرس المكان وهي تنفحني سمكًا مُملّحًا، عن تعجّبها: 

- "ليس لديك حتّى سلاح لمواجهة الدّببة؟". 

- "يوجد منها هنا؟". 

- "سأريك إن كانت موجودة".

كان جدار ألواح التّخشيبة مبعوجًا، وقِطعٌ من الخشب تتدلّى حول فتحة واسعة. 

- "هو ذا. كان منشرنا لتجفيف السّمك. الرّائحة هي التي تثيرها".

تلت ذلك خطبة مسهبة عن مضارّ الدّببة. حدّثتني عن الدّبّ الذي حطّم بيت تكييف خضر في العام الماضي، عن الدّبّ الذي يرود بالقرية كلّ مساء، عن الدّبّ الذي صادفته أمس حين ذهبت لقطف عنَبيّات. وتُبدي دائمًا نفس الاستغراب حين أخبرها بأنّي لم أصادفها بعد. 

- "احترس يا فتى، فهذا موسم التّزاوج الآن، والذّكور لا يُؤتمن جانبها".

شرحت لها أنّ لي نيّة منافستها، ولكن صادف أن لقيتُ من الغد أوّل دبٍّ قبيل الوصول إلى قرية دافشا بعد نهار طويل قضّيته في كوكبة آثار كانت من الكثرة ما جعل اللّقاء محتومًا. لم ألمح سوى كتلة سوداء تغوص في الأحراج باتّجاه الشّرق. جلجلي أدّى دوره. خلافًا لمزاعم الرُّبّان الذي لقيته على نهر لينا، لم أشعر بارتداد الصّدمة التي كانت ستتبدّى حسب رأيه في فيض الجوف. قرّرتُ أن أُضيف سلاح وقاية إلى ذخيرتي: منذ تلك اللّحظة، سوف أسير وأنا أتكلّم بصوت عالٍ.

قرية دافشا كانت فيما مضى ميناء نشيطًا، وكانت تنوي البقاء كما هي، ولكنّها لم تكن تتوقّع سقوط الاتّحاد السّوفييتيّ. في تلك الفترة المزدهرة، كان بهذا الكَفْر الموسوم بملامح بداية القرن مطار ونحو مائة نسمة. ولم يكن يوجد أيّ اتّصال ممكن ببقيّة البلاد، إذ كان النّاس يروحون ويجيئون جوًّا أو عبر البحيرة. واليوم، بقي عشرون عنيدًا، يعيشون على السّمك والبطاطا مع زوجاتهم وأطفالهم. البقيّة التحقوا بإيركوتسك. أنزلوني بمودّة في عزبة ذات خشب جميل تطلّ على البحيرة. خارجها، يبدو كلّ شيء ميّتًا في الضّوء الأبيض. رغم أنّ بعض الأطياف يغادر البيت أحيانًا، فيعبر طريقًا مُعشبة لم تسر عليها أيّ عربة منذ عشرات السّنين ويتوارى خلف سياج. ثمّة مُتحف زرته بمعيّة هيلينا، عالمة بيولوجيا سابقة في المحميّة، تُوجد فيه صورٌ للبريطانيّ جيرالد دوريل في زيارة لبيقال، ودبٌّ محشوٌّ بالقشّ. المكتبة أكثر أهمّيّة، تُخيّم عليها نَداوة مكتب عالِم. قضيت فيها وقتًا طويلًا، وأنا أتصفّح عناوين كتب تُثيرني بشكل مدهش: موسوعة عناكب الاتّحاد السّوفييتيّ، وكلّ شيء عن عَلَق بحيرات اتّحاد الجمهوريّات الاشتراكيّة السّوفييتيّة، ونباتات جمهوريّة بورياتيا الاشتراكيّة السّوفييتيّة المتمتّعة بالحكم الذّاتيّ... البانيا التي دُعيت إليها مساءً جعلتني رجلًا جديدًا، حطّابًّا مستعدًّا لدخول الغابة الكبرى وقطع جملة من الفَرْست. 

من الغد، على الضّفّة السّبِخة المغروسة بجذوع محروقة، ضايقتُ من جديد دبًّا. هرب متثاقلًا وهو يهزّ السّنادر. في النّهار، تتناوب المستنقعات مع الأحواض الكبيرة التي تجفّ بفعل النَّزْح الطّبيعيّ، وتبقى مدَرٌ من الطّين أشبه برؤوس عليها باروكات. بطّ برّيّ طار عند اقترابي ففتحت حزمة مُخورها تشكيلة زَبد على صفحة البحيرة. دائمًا معابر لا تنتهي. ودائمًا آثار دببة بالمئات. أُفضِّل أن أعاكس سيرها على أن أتّبعها: لا أحد يحبّ أن يكون الموت أمامه مباشرة. أعبر التّيّار القويّ لوادي سوسنوف ثمّ أحاول تفادي مستنقع بالتوجّه إلى منحدر مُغطّى بتيغة كثيفة، أرثريّة، ولكن لا ألبث أن أجد نفسي محصورًا في سفوح شديدة التحدّر، فأنزل من جهة المنحدرات الأقلّ وعورة. 


* مقتطف من كتاب "محور الذئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي.

المساهمون