استعادة بازوليني، الإيطالي المستفز

08 ديسمبر 2014
الممثل وليم دافوا في دور بازوليني
+ الخط -
مراهقةٌ جُرّدَت من ملابسها تتوسّل باكيةً بأن يدعوها وشأنها، تصلي وتدعو الله أن ينقذها من شرّه ثلاثة رجال يمثّلون السلطة. امرأة في الخمسينيات تمسكها من يدها بإحكام، وتخبّر أصحاب السلطة ألا يكترثوا لصلواتها، فهي صغيرة وخائفة، خاصّة بعد أن قتلت أمها نفسها أمامها، خوفًا عليها منهم. هذا الإرهاب، ليس إلا المشهد الأوّل في فيلم بير باولو بازوليني (1922-1975) "سالو أو120 يومًا في سدوم"، الذي كان آخر ما أخرجه بازوليني قبل مقتله.

يتكرّر المشهد ثانية ليغدو المشهد الأوّل في فيلم "بازوليني" للمخرج الأميركي آبيل فيرارا. فيه يتحدّث عن الساعات الأخيرة التي سبقت مصرع بازوليني. خلال ساعة وعشرين دقيقة، وعبر سيناريو بسيط، وبساطة شفّافة في أسلوب التصوير، يعيد فيرارا إحياء بازوليني، مقتربًا من عالمه الخاصّ، وأكثر لحظاته حميميةً.

فننتقل من مشهد لآخر في منزل الأمّ التي أحاطته بالحبّ والحنان طوال حياتها. ونراه يدق بأصابعه على الآلة الكاتبة لينهي روايته الأخيرة "بتروليو" التي يتحدّث فيها عن فضائح الصناعة النفطية في إيطاليا وقضايا الفساد والرشوة التي يتورّط فيها سياسيون وبورجوازيون. ثم نراه يلتقي بممثل وممثلة ليكونا بطلي فيلمه الجديد الذي سيخرجه ما إن ينتهي من فيلمه الأخير.

يمضي بازوليني الشيوعي الغاضب، والمبدع المتعدّد المواهب أغلب وقته بين الكتابة والشعر والإخراج والصحافة وقراءة الفلسفة وعلم الاجتماع. لقي حتفه وحيدًا ومشوّهًا، وتُرك ليلفظ آخر أنفاسه على رمال الشاطئ الباردة في عتمة الليل، بأذنٍ مقطوعة وكبدٍ ممزّقة وعظام محطمة. 

كيف للعالم أن يضيق بعبقري التهم الحياة التهامًا، وقدّم كل هذه الفرادة؟ تأخذنا عدسة كاميرا فيرارا، من مشهدٍ إلى آخر في حياة اليساري الراديكالي، الناقم على كل ما آلت إليه إيطاليا "حبيبته"، والمتخوّف من رائحة الفاشية التي كانت تدوّي في أرجاء روما وقتذاك. فاشيةٌ دفعته إلى إخراج فيلم "سالو"، ولعلّها كانت السبب في مقتله.
 
عاش بازوليني متحرّرًا، ومنحازًا لتحرّر الماركيز دو ساد من السلطات العليا التي تهدف إلى التحكّم بكلّ شيء. هو الإنسان المحرّض الذي لم يتوقّف عن المثول أمام القضاء مرارًا وتكرارًا بسبب أفلامه، التي مُنعت من العرض مرارًا، وبسبب قلمه الساخط، وشتائمه وتصريحاته الناقمة والمتكررة. لم يخفِ بازوليني يومًا مثليته وثمّة ظنّ بأنها قد تكون أيضًا تسبّبت في مقتله، على أيدي فاشيين يكرهون المثليين ويعادونهم.

إذ يُقال إنهم رأوه على الشاطئ مع صديقه، فضربوه إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وهربوا. وربما كانت السلطات الحكومية سببًا في مقتله كذلك، إذ إن قلمه اللاذع لم يكفّ يومًا عن الكتابة ضدّها. ولعلّها السلطة الدينية، خاصّة بعد فضحه للكنيسة وسخريته الدائمة منها، ومن استخدامها للبسطاء من أجل مصالحها الخاصّة وبقائها. 

قُتل بازوليني قبل ساعات قليلة من توجهه لإلقاء خطابه أمام الحزب الراديكالي الذي كان منتميًا له. لكأنّ إيطاليا سئمت خطاباته اللاذعة وفضائحه المتوالية.
 
تعدّ قضية مقتل بازوليني في غاية الأهمية، فقد كان من أبرز السينمائيين العالميين الذين ساهموا في تغيير صناعة السينما من "تجارية" و"هوليودية" إلى "فنّية" و"شاعرية" في سنوات السبعينيات، بعد التطوّر الصناعي والتكنولوجي في أوروبا.

وقد كتب بازوليني مقالات كثيرة عالج فيها دور الفنّان في تمثيله للواقع، ودور المخرج في تحويل الفنان إلى وسيلة يعبّر من خلالها عن أفكاره. فقد سينما راقية، تحثّ على التعمّق أكثر في ذواتنا وأسباب وجودنا. سينما بازوليني، اهتمّت بالموت كمصيرٍ لا بدّ من مواجهته، وبالفقراء ومعيشتهم ومعاناتهم أمام غطرسة البورجوازيين وأصحاب السلطات وظلمهم.

هذا كلّه حاضرٌ في فيلم فيرارا، حيث يقول بازوليني إن على الإنسان ألا يملّ من الدقّ على "رأس المسمار تكرارًا ومرارًا إلى أن ينهار المبنى بأكمله" مهاجمًا المؤسسات التي تمثّل السلطة. آمن بازوليني بفكرة الثورة وفكرة التضحيات التي سيقدّمها البشر في سبيل نيل حريتهم وتخلّصهم من الأنظمة الحاكمة والسلطات الأخلاقية التي تخلق سيطرتها من خلال حفاظها التامّ على ما تسمّيه الأخلاق والمجتمع.

كما آمن بأن التاريخ قدّم لنا أمثلةً ثورية كثيرة، كفرنسا. وآمن أنّ أساس التغيير يكمن في الممارسة المستمرّة للسلوك نفسه المتمثّل في "الاعتراض الدائم" على الأوامر، لكن، بنظرةٍ عقلانيةٍ وشاملة تتّسع فتحضن الجميع. فمن غيّر التاريخ وسيغيره، في ظنّه، هم أولئك الذين هتفوا "لا" عاليًا ودائمًا في وجه السلطات.

وفي الفيلم يظهر لقاءه الأخير مع الصحافي فوريو كولومبو، حيث يشير إلى أن الأغلبية الحاضنة للجميع هي التي ستغيّر الأمور، لا القلّة القليلة من رجال الدين أو المثقفين الذين اختاروا النظريات كحلّ يبعدهم عن الاقتراب المباشر من المشكلة حمايةً لأنفسهم. 

عبّر بازوليني عن مقته للمؤسسات والمنظمات الحكومية في مقالاته الكثيرة، وأشار إلى رغبتهم في موته: "هم يخافونني لأنني أعرفهم، لأنني أعرف من هم، وأعرف من هم لأنني مثقّف ومفكّر وأستطيع أن أتنبأ بما يحيكونه".

كان بازوليني ينتظر موته في كلّ لحظة، لا لأنهّ يعشقه – وقد كان مفعمًا بالحياة وبطاقة إبداعية لا حدود لها ـــ بل لأن شخصيّته وفكره وثقافته وصدقه التامّ مع مبادئه والتزامه بها، جعلت الأنظار الناقمة تلتفّ حوله. 

في إعادة إحياء فيرارا لبازوليني، صرخة غاضبة، ورسالة شخصية يوجهها المخرج إلى صنّاع السينما الحديثة، قبل السياسيين، فالمخرجُ ناقمٌ على ما آلت إليه السينما الحديثة وما آلت إليه الثقافة التي تحولت إلى "سلعة"، تمامًا كما كان بازوليني يرى الثقافة في المجتمعات البورجوازية ثقافةً "مصطنعة" ومجرد "سلعة" في خدمة السلطة.

إقرأ أيضا: رحلة بازوليني إلى فلسطين


المساهمون