هاني زعرب ولوحة غزّة: ما زلنا في المذبحة

08 يوليو 2024
هاني زُعرب في مرسمه بباريس، 16 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023
+ الخط -

المتأمّل في أعمال معرض الفنّان التشكيلي الفلسطيني هاني زُعرب، "إكسير الذاكرة"، الذي أُقيم مؤخّراً في "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة" بعمّان، بالتعاون مع غاليري "ARTZOTIC" الرقمي، يشعر أنّها خارجة من ذاكرة مثقوبة، أو من حميمية تدفع الناظر إلى مراقبة فضاءاتها والأخيلة التي تجذبنا إليها. رؤية هذه الأعمال، باختلافها وتفاوتها، تُشعرنا أنّنا أمام سياقات تُركّز بقدر كبير على التقنية من دون الحاجة إلى الحشو. نجد ذلك في أوراق هاني زُعرب وأشجاره وسُطوحه حيث تعيش الكائنات بلطخاتها الحيّة بين نُقطتين وبقايا وساعات مكسورة ومشتّتة ونقاط تتدلّى من الأعلى.

في سلسلة "سجين"، نجد ما هو مشابه لحياة الجزيئيّات أو الخلايا التي نبصرها في "الميكروسكوب"؛ خلايا أسيرة، أجسادُها تعود إلى التراب لتتحرّك داخله بما يُشبه لُعبة الألوان والخلايا والمجسّمات والأغطية، لنصل معها في النهاية إلى مقولة أنّ ما يُغلّفنا هو ما يأسرنا. أعمال تبدو كاستراحة بين شيئَين: الروح وما يُغلّفها، والجسد وما يقوله. التقت "العربي الجديد" الفنّانَ، للحديث من قُرب حول المعرض، وحول شجون الأعمال وبواعثها وعلاقة الفنّ بما يحصل اليوم ودوره في فضح الإبادة الصهيونية الجماعية في غزّة. 
 

■ أُريد أن أبدأ معك من الحدث الراهن. حدّثني عن علاقة ما ترسمه، اليوم، بالواقع؟ وهل تشتغل على لوحة معيّنة ترتبط بالإبادة المستمرّة في غزّة؟ 

- قبل الحرب كنتُ أعملُ على سلسلة من البورتريهات، ثم بدأت الحرب وتوقّفتُ. عادةً ما ألجأ إلى استراحة بين معرضَين. هذه الاستراحة ضرورية لأتخلّص من آثار المَعارض السابقة، خاصّة بعد أن يتمّ تحرير الأعمال كلّياً منّي وتصبح اللوحة مُنفصلة عنّي تماماً. ولكن حتى في الحروب، نادراً ما أشتغل على فنّ في قلب الحدث نفسه. أحسُّ بأنّني أحتاج باستمرار إلى أن أشعُر، أن أحزن وأفرح وأتلقّى ما يحصل وأهضمه وأرمي الكثير من ثرثراته قبل أن آخذ المادّة الأصليّة التي سأشتغل عليها. منذ بداية الحرب لم أشتغل عملاً كاملاً بمعنى العمل. كتبتُ فقرات، وملاحظات، وعبارات، ومشاعر، وهذا عادةً ما أُنجزه مع كلّ مشروع وكلّ فكرة أبدؤُها، الكتابة دائماً هي التي تأتي أوّلاً. هذا بالضبط ما أفعلُه اليوم.

تنحاز أعمالي إلى الإنسان بمشاعره وعُمقه ووجوده

■ هل يستطيع الفنّ بشكل عام اليوم أن يُقاوم أو أن يقول ما لديه تجاه ما يحصل؟ وما القدرة التي يمتلكها؟

- منذ بدايتي في الرسم، أثناء الانتفاضة الأُولى، أجدُ أنّ الرسم هو فعلُ مقاومة. مقاومة للملل والخوف والكآبة التي كنتُ أشعرُ بها أثناء حالات منع التجوّل. بدأتُ أرسم منذ تلك الأيام في مخيم رفح ثمّ في قطاع غزّة لاحقاً. ما زلت أذكرُ جيّداً أيّام منع التجوّل لأربعين يوماً متواصلة، وكان بيتنا يقع في شارع رئيسي هناك. هذا ما كان يمنع حتى من دخول الضوء إلى المنازل. أُؤمن، بكُلّ تأكيد، بالفنّ سلاحاً ثقافياً مُقاوماً ومُهمّاً، مثلُه مثل كلّ أشكال المقاومة الأُخرى. آمنتُ بناجي العلي، وغسّان كنفاني، وإدوارد سعيد ومحمود درويش، الذين كان لهم دورٌ مهمٌّ في إبراز القضيّة الفلسطينية. لا قدرة للفنّ على إيقاف الحرب طبعاً، ولكنّه قادر على إيصال صورة عنها لم يرَها الناس. صورة في مكانٍ ما هي لغة عالميّة حسيّة وملموسة أكثر من الصورة الفعليّة أو مَشاهد الإعلام. أمام كلّ ما يحصل اليوم، نسأل: ما الذي يُمكن أن نفعله أمام الصورة وأمام المجزرة؟ هل يقدر الفنّان أن يُنتج ما هو أكبر ممّا يحصل وأكبر من الواقع؟ هنا تكمن وظيفته وصعوبته في إيصال اللغة الحسّية إلى أقصاها، وهنا تكمُن المغامرة عندي.

الصورة
من معرض هاني زعرب - القسم الثقافي
"إكسير الذاكرة"، ثنائية، تفصيل، قطران وموادّ مختلفة على قماش، 90 × 152 سم، 2023 (من المعرض)

■ في ما يخصّك، هل يرتبط إدخال المواد المُختلطة في الاشتغال بفكرة ما؟

- لم يكن لديّ قرار، ولو لمرّة، في استخدام مادّة معيّنة، لكن، كان لديّ دائماً هوس بتنويع المواد؛ إذ لم أنجز أية لوحة من مادّة واحدة. منذ معرضي الأوّل، ونتيجة نقص المواد في الداخل الفلسطيني آنذاك، كنتُ أعمل على إدخال عناصر متعدّدة إلى اللوحة: التراب، والزيت، والأكريليك، والباستيل، والفحم وأشياء وبقايا أُخرى؛ حيث أقوم بتجميع المواد لتدخل في قوام العمل تلقائياً ومن دون قرار. أتعامل مع اللوحة بوصفها خامة أو معالجة بصريّة للسطح، ليأتي بعدها ماذا تريد أن ترسم أو تحكي أو تفكّر. هذه المعالجة للسطح لا بدّ أن تكون غنيّة ومناسبة للفكرة المطروحة حسّياً وذهنياً وفكرياً، فكلّها تنصهر داخل العمل.


■ لكن كيف تُسهم هذه المواد، على خشونتها وغرابتها والانطباعات الصلبة التي قد تحملها، في إيصال فكرتك؟ وكيف تستطيع ربط بعضها ببعض؟

- المواد ليست عبثية. أُؤمن بأنّ الفكرة هي التي تجرُّك إلى استخدامها وترغمُكَ على اختيارها دون مواد أُخرى. كلّ مادة معيّنة لها القدرة على المساعدة في إيضاح الفكرة ومحاولة تجسيدها وإضفاء شيء من الحميميّة عليها. وفي ما يتعلق بي، الموضوع ليس له علاقة باختيار مواد غريبة، بل الوقوع على مادّة قادرة على حمل الفكرة وإعطائها طبقة فكرية وذهنية تزيد من غناها وعمقها، هذا ما يعنيني بالدرجة الأُولى.


■ هل يمكننا أن نتحدّث عن طقس معيّن في اللوحات؟

- يمكننا ذلك. أنحاز في أعمالي إلى الإنسان، بمشاعره وحسّه وعُمقه ووعيه ولاوعيه أيضاً. لذلك حين تنظر في أعمالي يظهر لك هذا الخروج من الزمان والمكان، خروج مقرون بمحاولة دائمة لأن تكون اللوحة نابضة وحيّة بأيّ مشاعر ممكنة. هذه المشاعر ستتطوّر لاحقاً، ولكن يبقى في العمل الفنّي أساسه الذي انطلق منه، وهو بصورة ما قوامه وركيزة بقائه منجزاً فنّياً. 

الصورة
بقايا - القسم الثقافي
"بقايا 1"، قطران ومواد مختلفة على قماش، 30 × 30 سم، 2023 (من المعرض) 

■ ينحو التركيب البصري في أعمالك لإخراج الذاكرة من حيّز العرض التمثيلي البحت إلى إظهارها آثاراً تصنعها الصدمة (التروما) وتولّدها الأحداث، هل تقديم "التروما" أساساً للتذكّر والذاكرة يجعل من هذه الأخيرة موضوعاً أكثر حياة وواقعية؟

- لا أعتقد تماماً أنّ "التروما" هي أساس للذاكرة والتذكُّر، بل أعتقد أنّ هذين يظهران في مرحلة ما بعد التخلّص من "التروما" وآثارها، هذا في حال وُجدت طبعاً. ما أُحاول إنجازه هو أكثر وأبعد من آثار "التروما"، وهو يتجلّى من خلال التلامُس العاطفي. تلامُسٌ يحاولُ بأكبر قدر مُمكن حشد الشعور والإحساس بشكل مصفّى، وتقديمه داخل عمل فنّي.

ما أشتغل عليه أبعد من اختزاله في مفهوم الصدمة

■ تعتمل اللوحات بشفافية عالية لتُظهرَ تداخُل المكوّنات والأشكال. هل الشفافية مدخَل إلى التذكُّر، وهل تحاول تقديمها عنصراً مقاوماً للنسيان؟

- الحقيقة أنّني، حين ذهبتُ إلى الخطّ الموازي التقني الجديد الذي يظهر في آخر عشرين عملاً موقّعة بـعنوان "سجين"، حاولتُ اللجوء إلى شفافية معيّنة استخرجتُها من الموادّ التي خلطت بعضها في بعض. هذه المواد الوسيطة التي استخدمتها في أعمال سابقة، هي مواد سائلة وشفّافة تعمّدت إخراج شفافيتها وكشفها والشغل عليها طبقاتٍ عدة، لتُعطي ألواناً أُخرى. مثلاً، حين نكون أمام طبقة شفّافة من هذه المادّة لونها أزرق تُوضع على طبقة أُخرى حمراء، التلامُس بين هذه الطبقات، على اختلافها، يُعطينا شيئاً من البنفسجي. كذلك الحال في ما يخص الذاكرة والتذكّر، فهُما أيضاً موجودٌ فيهما هذه الطبقيّة، وهذا التلامُس هو شيءٌ مشترك بينهما. مثلاً الذاكرة قد تأتي على بالك من خلال رائحة مكان أو شخص، وكلّ ذلك يحصل بطريقة لا شعورية ويوصل إلى طبقات أُخرى حول هذه الرائحة أو الشخص أو المكان. الذاكرة بدورها تتكوّن من هذه الطبقات، وفيها شفافية عالية تجمع بين أطرافها.


■ تُظهر أعمالك محاولات لاقتراح الحميميّة مع العضوي والخام في عمليّة معالجتك للذاكرة، هل يُمكن أن تُحدّثنا عن ذلك؟

- هذا أمر مؤكّد، وهو مُهمّ جدّاً لي. إنّه من أكثر الأمور المُتعبة في عملية اشتغالي على اللوحة والمواد، بالإضافة إلى التقنية والتفكير والبحث الفكري طبعاً. الحميميّة والعاطفة والإحساس والمشاعر كلّها عوامل أساسية في عملي. عندي، تكمن الصعوبة في أن أنثر وأُغمّس عملي بهذه الحميميّة. كيف يُمكنني أن أُدخل أعمالي فيها؟ هذا هو سؤالي الدائم، ولكن من دون إفراط. دائماً لديّ صراعٌ بين الحميمي والعضوي (الخام)، لذلك ترى أعمالاً مُمتازة وجميلة خامةً، ولكنّها تُعطي انطباعاً بأنّها بلا إحساس وبلا عصب وبلا نبض. أحاول قدر المستطاع أن تكون أعمالي ذات نبض وحرارة وعاطفيّة ويتخلّلها شيء حسّي، ولو كان خفيّاً، على شكل خيط يغلّف خلفيّة الأعمال، كأنها "دينامو" مستمرّ ودائم يحفظ العلاقة بين الموادّ الصلبة الموجودة وخيوط الحميمية والإحساس.

الصورة
عودة إلى الأزرق - القسم الثقافي
"الرجوع إلى الأزرق"، قطران ومواد مختلفة على قماش، 120 × 100 سم، 2023 (من المعرض)

■ هناك غياب للدلالة على الوعي الذاتي في أعمالك؟ 

- الوعي الذاتي هو أساسي ومفصلي في عملي وبحثي ورحلتي في الحَفر داخل الذات، ولكنّي أُولي اهتماماً كبيراً للّاوعي الذاتي. فعملية التذكُّر عملية غير واعية، من يستطيع أن يجزم ويُؤكّد؟ المساحة التي قد تكون مُرضِيَة هي منطقة "البين بين"؛ بين الوعي واللّاوعي. الذاكرة هي لاوعي بكلّ تأكيد، لكنّ التذكّر هو عملية استفزازية من قبل الذاكرة، قد يدخل فيها القليل من الوعي أو جزء منه.
 

■ يحمل عددٌ من لوحاتك عنوان "سجين". هل في هذا التناقُض تبنٍّ لاعتمال التذكُّر باعتباره عملية غير واعية؟

- اللوحات الموقّعة بـ"سجين" مبنيّة على تجربة شخصيّة فعلاً، فقد عشتُ تجربة سجنيّة عام 2002، واشتغلتُ عليها بعد السجن مباشرةً في مسابقة الفنّان الشابّ، آنذاك، في رام الله. اشتغلتُ على موضوع السجن، والعمل الذي قدّمتُه كان عاطفياً ومناسباتياً، خارجاً لتوّه من داخل "التروما" والحالة النفسية الصعبة، فلم أشعر أنّني تحدّثت فيه، أو من خلاله، عن شيء عميق أو له علاقة بالفنّ. بعد مرور اثنتين وعشرين سنة عدتُ إلى هذه الذكرى لنبشها والبحث فيها للمرّة الأُولى، هناك جزء ذاتي في داخلي هو الذي فرض عليّ تذكّر هذه التجربة والرغبة في الحديث عنها في هذا الوقت بالذات. كان من المُفترض أن أُنجِز ثمانيةً وأربعين بورتريهاً لثمانية وأربعين سجيناً، طبعاً لِما في رقم ثمانية وأربعين من دلالة في حياتنا نحن الفلسطينيّين، ولي أنا شخصياً، إذ أبلغ السنة المُقبلة عامي الثامن والأربعين. 

الصورة
سجين رقم 4 - القسم الثقافي
"سجين رقم 4"، قطران ومواد مختلفة على قماش، 22 × 27 سم، 2023 (من المعرض)

للأسف، بدأ العدوان على غزّة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولم تُتَح لي الفرصة ولا الاطمئنان النفسي لإكمال العمل. أنجزتُ عشرين بورتريهاً وتوقّفت. فعادة أشتغل وأنا بكامل وعيي عاطفيّاً. لا أستطيع أن أشتغل في الوقت الذي تكون فيه عاطفتي مشتّتة، يجب أن تكون عاطفتي حاضرة ومتوقِّدة أثناء العمل أو على الأقل أثناء التفكير فيه والإعداد له. يجب أن "أُفلتر" عواطفي وحُزني قبل أن أُنجز أيّ فكرة. عشرون بورتريهاً مُنجزة من الموادّ الوسيطة مع الزفت، كنتُ أقصد أن تكون بورتريهات معروضة وكأنّها لكائنات ينقصها الأكسيجين. كان هذا هدفي من التقنية هذه مجرّد بورتريهات تشعر بالاختناق، كائنات وأشياء مغلّفة تحتاج إلى هواء.


■ ما الذي تغيّر فيك اليوم بعد العدوان على غزّة؟ 

- نحن ما زلنا في المذبحة، وليس لديّ أي قدرة على القول أو التفصيل أو التفسير، ولكن ما أعرفه تماماً أنّني بعد كلّ ما حصل قد تغيّرت!
 

المساهمون