دروس من وحي التراجيديا اليونانية

13 يوليو 2015
تظاهرات عقب إعلان نتائج الاستفتاء في اليونان (Getty)
+ الخط -
تسببت الأزمة المالية، خلال عامي 2007-2008، بالركود الاقتصادي العالمي، الذي لا يزال العالم يحاول التعافي منه، وإلى أزمة الديون السيادية الأوروبية، التي لم تُحل بعد. يعتبر الكثيرون أن السنوات الخمس الماضية هي بمثابة التحدي الاقتصادي الأكبر، عالمياً، منذ أن واجه العالم تبعات الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث توالى ارتفاع معدلات البطالة في جزء كبير من المعمورة، خاصة في بلدان جنوب أوروبا مثل اليونان، وأنها، بلا شك، ستكون رحلة طويلة ومؤلمة لاقتصادات هذه الدول من أجل عودتها إلى مسارها الصحيح.

في اليونان، كان انعدام الانضباط المالي من بين أهم العوامل وراء أزمة الديون اليونانية التي وصلت إليها، إذ كانت الدولة، لعقود من الزمن، تنفق أكثر ممّا يمكن تحمُّله مستقبلاً، ما جعل اليونانيين يعيشون ضمن مستويات تتجاوز إمكانياتهم ومواردهم الحقيقية.

في الواقع، لم يكن ارتفاع نفقات الدولة، رغم تجاوزه جميع الخطوط الحمراء، السبب الأساسي، فقط، وراء إفلاس الدولة، بل كانت سياسة الإنفاق العام، التي اتبعتها الدولة، موغلة في التعثّر والأخطاء. فقد كان يذهب جزء كبير من الموازنات العامة نحو تقديم الدعم، ودفع الأجور والمعاشات التقاعدية، بدلاً من توجيهها، بموازة ذلك، نحو تطوير القطاع الخاص بغية تخفيف عبء التوظيف على كاهل الدولة.

اقرأ أيضا: اليونان تدافع والأميركيون يعانون

لكن ما حدث هو العكس تماماً، إذ شرعت الحكومات المتعاقبة في زيادة أعداد موظفي القطاع العام، فضلاً عن ارتفاع الأجور النسبي للموظفين مقارنة مع القطاع الخاص. في الواقع، لم تفعل اليونان شيئاً لتطوير ورفع القدرة التنافسية للقطاع الخاص، بل كان الإنفاق العام يتجه نحو الاستهلاك، على نحو كبير، بدلاً من الاستثمار.

أدى تضخم القطاع العام إلى حدوث اختلالات تجارية وتصدعات في الاقتصاد الكلي، فقد انخفض الإنتاج الصناعي، في المتوسط، بنسبة 1.7% على أساس سنوي بين 2000 و2013. وتسبب فشل القطاع التصديري في توليد الأموال اللازمة لتمويل الطلب المفرط على السلع والخدمات، إلى تضخم العجز في الحساب الجاري إلى نحو 50 مليار يورو في عام 2008. علاوة على ذلك، أدى انتشار الفساد والضغوطات التي مورست من قبل الطبقة النخبوية، من أجل كسب مشاريع حكومية، إلى ترسيخ الضائقة الاقتصادية في اليونان.

ليس من المستغرب، بالتالي، فشل الدولة في سد العجز المتفاقم في الموازنة، فاقترضت الكثير من الأموال، التي سرعان ما أصبحت وسيلة التمويل المركزية للدولة، فارتفعت مديونيتها من 195 مليار يورو في عام 2005، أو 100% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى 360 مليار يورو في عام 2011، أو 170% من الناتج المحلي الإجمالي.

اقرأ أيضا: الأزمة اليونانية: لا حل ولا بديل

واليوم، فإن اليونان تدفع ثمناً باهظاً لأخطائها، ليس أقلها اتّباعها لسياسة "شد الأحزمة" الصارم، واعتمادها تدابير تقشفية قاسية لمواءمة النفقات مع الإيرادات، عن طريق خفض الإنفاق، ورفع الضرائب، أو كليهما معاً. وازدادت التوقعات، في الفترة الأخيرة، حول خروج محتمل لليونان من منظومة الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي من شأنه أن يوجّه ضربة قاصمة للاقتصاد اليوناني، خاصة مع تقلّص البدائل المتاحة لخروج اليونان من هذا المأزق.

قدم الاتحاد الأوروبي، ولا يزال، حزم الإنقاذ، على شكل قروض رخيصة، إلى عدد من الدول الأوروبية التي عانت من مشاكل اقتصادية، بما فيها اليونان. مع ذلك، فإن هذه الحزم تأتي ضمن شروط صعبة، حيث تشترط على اليونان البدء بخفض الأجور، ورفع الضرائب، ورفع سن التقاعد، وإصلاح الثغرات في النظام الضريبي، وغيرها من الإصلاحات التي لا تحظى بشعبية. في الواقع، واصل الاقتصاد اليوناني تراجعه المستمر منذ عام 2008، حيث يعمل، حالياً، ضمن معدلات أقل بكثير من إمكاناته الفعلية، مع نسبة بطالة تجاوزت 25% في عام 2012.

بالتأكيد، ليس هذا هو الوقت المناسب للبدء بخفض الإنفاق العام، ولكن، مرة أخرى، ليس أمام اليونان من خيار آخر.

تُظهر التجربة اليونانية أن انعدام الانضباط المالي، لدولة ما، قادر على إحداث اختلالات في اقتصادها الكلي. في الحالة اليونانية، تحديداً، مهَّد الإنفاق غير الفعال الطريق إلى اللجوء للاقتراض، بِنَهَم، دون دراسة العواقب، في حين أدى سوء استخدام تلك الأموال إلى وصول اليونان، في نهاية المطاف، إلى حافة الهاوية.
(خبير اقتصادي أردني)
المساهمون