الجامعات الغربية في الخليج.. محاولة للتقييم

24 مايو 2015
صناعة القيادات الجامعية تعد هي عملية البناء الحقيقي (Getty)
+ الخط -
بعد مُضي ما يقرب من عقدين على فتح فروع للجامعات الغربية العريقة والكبرى، في بعض البلدان العربية، وبخاصة في الخليج، ربما يمكننا مقاربة تقييم التجربة والتأمل في نتائجها. قبل أربع سنوات كنت قد كتبت منتقداً تجربة استقدام هذه الجامعات الغربية إلى المنطقة العربية، واعتبرت أن سلبيات التجربة تفوق إيجابياتها. يومها كنت أكتب وأنا بعيد عن واقع التجربة، وأثناء تدريسي وإقامتي في كامبردج. منذ سنتين ونصف أتيح لي أن اطلع عن قرب على التجربة وأن أكون جزءاً منها، وعضوا في الهيئة التدريسية لجامعة نورثويسترن في المدينة التعليمية في مؤسسة قطر. الانخراط العملي عدل رأيي النظري والتنظيري بشكل كبير، حول هذه التجربة. 

نعرف أن عدد وحضور الجامعات الغربية في دول الخليج والمنطقة العربية بعامة، قد تنامى وتطور في السنوات الماضية بشكل لافت، كما تخرج منها آلاف الطلبة وارتبطت أكثر بالبيئات والمجتمعات المُضيفة. اُستقدمت معظم إن لم يكن كل تلك الجامعات بمبادرات حكومية، وفي غالب الأحيان بإشراف مباشر من قبل المؤسسة الحاكمة. بعض الجامعات العريقة ترددت في قبول فكرة افتتاح فروع لها بعيداً عن مقرها الأصلي، لكن بعضها الآخر حسم المسألة مع اتساع أفق النظر حول التعليم العالي في ظل ما وفرته العولمة من كثافة ويسر في التبادلات الاتصالية والتواصلية، وما قلصته من معنى الجغرافيا وسطوة المكان، وقربته من حدود وضغطته من زمن.

منطلقات وإيجابيات
ثمة منطلقان مُفترضان يمكن تلمسهما وراء فكرة استقدام الجامعات الغربية، وبخاصة ذات الأسماء الكبيرة، إلى البلدان العربية أحدهما تفاخري تظاهري لا جدوى من نقاشه هنا، والآخر حقيقي هدفه فعلاً رفع مستوى التعليم العالمي في البلد المعني.
ويمكن أن نفترض أيضاً وجود مجموعة من الأهداف التعليمية والتربوية (وغيرها)، يُراد تحقيقها من خلال تأسيس فروع لجامعات غربية شهيرة وريادية في المنطقة العربية.

أول هذه الأهداف ترقية التعليم الجامعي في البلدان العربية المضيفة وتعميق نوعية التعليم، عن طريق الاستفادة من الخبرات المتراكمة لمؤسسات وجامعات غربية عريقة. تستهدف هذه السياسة أيضا توفير فرص للدراسة الجامعية العليا، للطلبة الذين لا يستطيعون أو لا يرغبون في استكمال دراساتهم العليا في الخارج لسبب أو لآخر. وهناك على وجه التحديد اهتمام مركز بالطالبات اللواتي لا يسمح لهن أهاليهن بالسفر للخارج، وهكذا فإن وجود جامعات غربية رفيعة المستوى، وفي البلدان المعنية يسهل لأؤلئك الطالبات فرص تحقيق طموحاتهن. إضافة إلى ذلك فإن وجود فروع من جامعات غربية ناجحة ومتمرسة في حقول العلوم المختلفة، من شأنه أن يؤثر إيجابياً وبشكل مباشر أو غير مباشر على الجامعات المحلية ويرفع من المستوى الإجمالي للتعليم الجامعي.
كما قد يُساق هنا هدف توفير الموارد المالية التي تنفق على أجيال الطلبة المغتربين الذين يستكملون دراساتهم العليا في الخارج. فعوض أن تهدر هذه الموارد على هدف جزئي متقطع بالإمكان إنفاقها في تأسيس بنية تعليمية تحتية دائمة، لا توفر فحسب التعليم العالي للأجيال القادمة، بل تساهم أيضاً في رفع مستوى التعليم الجامعي على الأمد الطويل في البلد المعني. ربما تمكن إضافة أهداف أخرى هنا أو هناك, لكن بالإمكان الزعم أن هذه هي الأهداف الأهم التي يمكن تخيل وجودها في دوائر صنع القرار الخاصة بهذا الشأن. وهي على العموم أهداف تحمل وجاهة كثيرة وفيها منطق لا يمكن التقليل من أهميته.

تحفظات وانتقادات
مقابل تلك الإيجابيات، ثمة عدد من التحفظات كنت أظن في السابق أنها ترجح في ميزان التقييم الموضوعي النظري، لكن معايشة التجربة على الأرض تقلل من الوزن الذي تتمتع به تلك التحفظات وهي في مستواها النظري و"العاجي"، لكن لا تبطلها تماماً. نظل إذن، ويجب أن نظل، في دائرة التقييم الموضوعي المُتحرر من الأحكام المُسبقة، والمتحرر من المديح النفاقي الذي لا يفيد النقاش ولا يخدم أي هدف حقيقي.
في السابق كنت قد كتبت أن أول التحفظات على فكرة استقدام الجامعات الغربية، هو فرضية نجاح “المنسوخ” لأن “المنسوخ عنه” ناجح أصلاً: أي أن فروع الجامعات العريقة في الدول العربية والخليج تحديدا سوف تكون ناجحة لأن الجامعات الأم ذاتها ناجحة. فدور العلم هذه هي خلاصة قرون من التراكم العلمي والأكاديمي والسياسي والحرياتي.
وهذا التراكم ولّد، وتولّد عن، ظروف موضوعية أتاحت لتلك التجارب أن تنمو أفقيا ورأسياً في أجواء ميزتها الأساسية ارتفاع سقف الحرية الأكاديمي والبحثي، إضافة إلى استقلالية هذه الجامعات وعدم خضوعها للنظام السياسي (رغم تأثرها به ومساوماتها الجزئية في هذا الحين أو ذاك).
على ذلك فإن ما يراه صُناع السياسة التربوية العرب من نجاح في هذه الجامعات هو النتيجة الراهنة لمقدمات موضوعية وزمنية طويلة. ويجب النظر إلى هذه التجربة نظرة متكاملة وليس جزئية، بمعنى لا يمكن ببساطة استقدام تجربتها الناجحة من دون أن يترافق ذلك وتوفير شروط موضوعية مشابهة للظروف التي ولدت ذلك النجاح. لا يمكن أن تنجح فروع تلك الجامعات في المنطقة العربية مجتمعة، في إنتاج بحوث رصينة ومحترمة في معظم، إن لم يكن، كل حقول العلوم الإنسانية، من دون أن يتوفر شرط الحرية الأكاديمية والبحث العلمي. ففي معظم هذه الميادين يصطدم الباحث بالمحاذير والتابوهات السياسية والدينية والثقافية والإجتماعية، ولا يستطيع أن يبحث في الكثير من هذه الشؤون ناهيك عن أن ينشر نتائج ما يصل إليه.

ما زلت مقتنعا بعناصر أساسية أوردتها في ذلك التحفظ، لكن التجربة العملية تضيف وتخفف من وطأته من زاويتين. الأولى، هي أن معظم فروع الجامعات الغربية في البلدان العربية تركز على الجانب التعليمي أكثر من البحثي، وهي بهذا تساهم في العملية التعليمية الجامعية وتخريج أفواج من أبناء البلدان المعنية وفق معايير علمية عالية. صحيح أن اهتمامها بالبحث العملي ومنح شهادات عليا، مثل الماجستير والدكتوراة، يأتي في المرتبة الثانية أو حتى مرتبة ثانوية، لكن هذا لا يُحبط الإنجاز الكبير الذي تقوم به. فضلا عن ذلك فإن مساحات اكتساب حريات أكاديمية سواء في قاعات التدريس أو البحث هي في اضطراد مستمر حتى لو كان جزئيا ووئيداً، ذلك أن فروع هذه الجامعات تتمتع بمساحات تحرك أفضل من الجامعات المحلية بالتأكيد.

حصاد التجربة
من زاوية أشمل، علينا أن لا نتغافل عن الصورة الإجمالية والمتعلقة بالظروف الموضوعية التي قادت إلى تراكم النجاح للجامعات الغربية الكبرى، وهو كونها حلقة متناغمة الارتباط في سلسلة العملية المعرفية والتعليمية العضوية والمتراكمة، حيث يسبقها أنظمة تعليمية مدرسية تقود الطالب، المبدع خصوصاً، إلى مسارات تعزز وتفجر طاقاته الإبداعية، وتحرر مواهبه. وهذه العملية العضوية المتكاملة، ما زالت غائية في المشهد التربوي والتعليمي العربي، الذي تسود فيه أنظمة تعليمية ومدرسية تقليدية ومتكلسة، وبعيدة عن الرقي النوعي، إن لم نقل متخلفة. عند ذلك فإن دفع الأجيال المدرسية التي لم تلق التعليم النوعي المناسب إلى جامعات نوعية يغدو كمن يحاول إلباس الشخص المريض قبعة جميلة بهدف معالجة مرضه!
لكن بالمجمل العام يمكن القول إن حصاد التجربة الحالية من استقدام الجامعات الغربية ذات النوعية التعليمية الراقية، مفيدة وتساهم في تحفيز ودفع التعليم الجامعي إلى الأمام، والنجاح الكبير لمشروع المدينة التعليمية في الدوحة يمكن أن يُساق كدليل، ذلك أن الاستثمار في التعليم وصناعة القيادات الشابة والجامعية هو عمليا البناء الحقيقي لمستقبل هذه البلدان.
المساهمون