حقائب ملغمة... يحملها أبنائي على ظهورهم

06 ديسمبر 2015
تعاني الأمهات كثيراً في إقناع الأبناء باستذكار دروسهم (Getty)
+ الخط -
كلما اقترب موعد وصول أطفالي من المدرسة اكتسى وجهي بلون شاحب مريض؛ كلما امتلأت مسامات بشرتي بالغضب زادت ضربات قلبي ضاخة الأدرينالين في أنحاء جسدي بكثافة.

ليس كرها ولا غضبا من أطفالي بالطبع، وإنما هو كره بكل ما تحويه الكلمة من معانٍ قاسية وجافة لما يحملونه خلف ظهورهم المنحنية قبل أوانها.. حقائب المدرسة.

بمجرد وصولهم ومنحهم الأحضان المتوجسة خيفة من الحقائب الملغمة وإلى أن ينفضوا عنهم الأتربة المدرسية ويستبدلوا ملابسهم أنقض على حقائبهم الملغمة لأتابع كراسات المتابعة حتى أستعد نفسياً لما هو آت وأبدأ بتنظيم الأولويات.

بعد أن يتناولوا غدائهم أدفعهم دفعا لمكاتبهم وكأنني أدفع بهم إلى حلبات مصارعة ليس لهم فيها ناقة ولا بعير، لنتصارع معاً في حل كم هائل من الواجبات، وكأن مدرّسة كل مادة اتخذت من طفلي أسيراً لمادتها، نظل ساعات نخدم في مادتها هذا إذا لم أقم بالشرح من البداية.

وهكذا دواليك أستعطف هذا وأتوسل لذاك، أترجى الأكبر منهما أن ينجز واجبه سريعاً بينما أنتهي مع أخيه الأصغر الذي يصرّ على أن يكمل لي روايته عن صديقه مازن الذي فقد سناً في الفصل اليوم.

وسبحان الله على قدر الكسل الذي ينجزان به أعمالهما يأتيهما النشاط والقوة كلما رن هاتفي وزادت المكالمة عن ست دقائق، نعم ست دقائق كفيلة أن تبعثرهم في غرف البيت، فيبدآن بالمرح والقفز كالقرود على الأسرة، وما إن أنهي المكالمة على عجل، أعود سريعاً للمّ شملهما من شتات الغرف كي نواصل مسلسل الرعب.

وبالرغم من أني امنحهما أوقاتاً كافية للراحة، كما يوصي التربويون، وبالرغم من استعانتي بالدروس من خلال الإنترنت إلا أن طفولتهما تأبى العودة للاستذكار من جديد بعد كل راحة.

لا أنسى أبداً ملامح وجه طفلي المكفهرة حينما أتى إليّ عابساً لأراجع له نصاً أدبياً فبادرته بسؤالي فزعة: "يا ساتر يا رب.. ماذا بك؟"، ليجيبني وكأن عليه أرزاق العباد: وماذا تنتظرين من شخص يذاكر!.

اقرأ أيضاً: "تعرف فلانة...شوفتها وهي بتذاكر لعيالها؟"

رده العفوي هذا دفعني للعودة إلى التفكير في أسئلتي الأزلية، ماذا نريد من التعليم؟، هل نرغب في تحصيل درجات دراسية عالية دون فهم؟ هل النجاح يقاس بكليات القمة؟ أيهما أهم في التأسيس لأبنائنا، البناء الذاتي النفسي أم البناء التعليمي؟ متى سنكتفي من التعليم التلقيني غير المواكب بتاتاً لعصر التكنولوجيا الحالي والمستقبلي؟ هل نظام التعليم الحالي كفيل بتخريج أجيال ابتكارية مبدعة أم قوالب سُقيت بنفس المدخلات واختلفت في المخرجات وفقاً للفروق الفردية لأصحابها؟.

لماذا نظامنا التعليمي قائم على الطبقية، فمن يحصل على درجات أعلى أصبح الأمير على أقرانه بينما يظل صاحب الدرجات المتدنية أسيراً لنفس الفكرة؛ وهي بالمناسبة نفس نظرتنا لأصحاب السلطة والمال؟.

لماذا لا يكون لقاء المعلمين بأولياء الأمور تقييماً سلوكياً اجتماعياً بعيداً كل البعد عن فكرة التحصيل الدراسي ليجري علاج أي قصور أو عطب في شخصيات أبنائنا؟.

بعد أن طافت وجالت كل أسئلتي في رأسي شعرت بغصة قاتلة داخلي، كيف يجيبني بهذا الرد البائس المحبط وأنا من أوفر له التعليم من خلال تبسيط المعلومة له، وأسعى جاهدة إلى ألا يعلو صوتي صارخة: "أكمل واجباتك"، كما أسمعها مدوية من جاراتي، كيف يشعر بهذا الملل وأنا أوفر له المناهج من خلال مواقع الإنترنت فيشاهد الدرس بعدة طرق وأساليب.. كيف أقنع صغيري بأن المذاكرة بالرغم من ثقلها مهمة في حياتنا الحالية والمستقبلية.

انتهزت الفرصة واستدعيت طفلي وفتحنا حواراً مطولاً حول لماذا تشعر بأن الاستذكار همّ إلى هذا الحد؟ وما هي أثقل أو على حد تعبيره "أسخف" مادة تواجهك؟ وما هو السبيل الأمثل من وجهة نظرك للتخفيف من سخافتها؟


ثم تطرق حوارنا لأوضح له أن التعليم ما هو إلا وسيلة نصل بها إلى غايتنا.. فلن ترتاد يا صغيري كلية الطب البيطري كما تحب إلا إذا حصلت على مجموع يؤهلك لها، لن تستطيع أن تكتب الشعر إلا إذا تعلمت قواعد النحو، لن تفهم كيف يحول الله غذائك الصلب لمواد يستفيد منها جسمك إلا إذا درست الجهاز الهضمي، لن تعرف تاريخ بلدك إلا إذا درست التاريخ والجغرافيا. وأكدت عليه كما أوكد في كل مرة نقترب فيها من الامتحانات بأني لا أرغب في تحصيل العلامات النهائية في الامتحانات بقدر أن يبذل أقصى ما عنده وأن يكون راضياً عن أدائه فيها حتى لا يشعر بالندم.

وأخيراً، كنت أتمنى يا صغيري أن يكون في بلادي نظام تعليمي يمنحك المعلومة بسلاسة دون تعقيد، أن يكون كتابك المدرسي مبهجاً بألوانه، شيقاً في معلوماته، خفيفاً في وزنه.
كنت أتمنى أن يكون معلموك على علم بأحدث الأساليب التربوية فلا يتلفظون بإهانات أو تقييمات لتلاميذهم تجبر التلميذ على أن يقتنص حقه من معلمه باللفظ أو باليد.

كنت أتمنى أن تعامل المدرسة حصص الألعاب والرسم والموسيقى كحصص رئيسية كأي مادة أخرى، فربما سنحت لهم فرصة لاكتشاف وتقدير مواهب تلاميذهم.

كنت أتمنى أن تعيد وزارة التربية والتعليم رؤيتها للمناهج الدراسية، وأن تعي أن حشو التعليم في رؤوس صغارنا غير مجدٍ وأن الأجدى والأصح أن يتعلموا ما ينفعهم مستقبلاً، فليس النجاح بالكم وإنما بالكيف.

كنت وما زلت أحلم أن يُلغى التعليم النظامي في الوطن العربي.

 
اقرأ أيضاً: صعيد مصر: تعذيب من أجل عيون "الشهادة"

المساهمون