تفريخ البطالة واليأس:النظم التعليمية العربية لا تحاكي حاجة السوق

30 مايو 2016
ارتفاع قياسي في نسب البطالة بين الشباب الجامعي (Getty)
+ الخط -
إثر موجة الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي، تغيّرت التركيبة الطبقية في معظم المجتمعات العربية، بعد إقرار معظمها مجانية التعليم وإجباريته. استطاع هذا القرار أن يمهّد الطريق لملايين المواطنين للارتقاء في السلّم الاجتماعي عبر بوابة التعليم والتوظيف في القطاع العمومي. كانت بداية القرن الواحد والعشرين، بمثابة إعلان نهاية هذه التجربة بعدما فقد التعليم قدرته على تأمين الحياة الكريمة للمتخرجين، وسط ارتفاع حدة الأزمات الاقتصادية وسوء السياسات الاجتماعية والتشغيلية، ليجد الشباب العربي نفسه مُحالاً إلى البطالة الإجبارية بعدما ضاقت سوق الشغل بالعمالة وتحولت المدارس والجامعات إلى مؤسسات تفرخ البطالة واليأس. 

شهادات "حائطية"
يشير الباحث الجزائري مالك سراي، إلى أن معدّلات البطالة في صفوف حاملي الشهادات العليا بلغ مستويات قياسية في العالم العربي، خاصة في الجزائر.

وتفيد آخر الإحصاءات الصادرة عن الديوان الوطني للإحصاء بأن نسبة العاطلين من العمل من خريجي الجامعات فاقت 28% في العام 2014، أي ما يقارب 3 ملايين شاب وشابة دون وظيفة. ويقول سراي: "إن تطور هذه النسبة يسير بنسق متسارع نظراً لتخريج الجامعات والمعاهد الجزائرية لأكثر من 250 ألف متخرج سنوياً، ما يستوجب خلق العدد نفسه تقريباً من الوظائف كل عام من أجل الحفاظ على المعدل الحالي للبطالة".
أما بخصوص الاختصاصات الأقل طلباً في سوق الشغل، فيشير سراي إلى أن خريجي الاختصاصات الأدبية هم الأقل طلباً في سوق الشغل والأكثر بطالة بنسبة تناهز 60%. أما الاختصاصات العلمية والتقنية، وخاصة تلك التي تتعلق بقطاع الخدمات، فهي الأقل تضرراً من البطالة، حيث تستوعب أكثر من نصف اليد العاملة النشيطة بما يمثل 56.6% من إجمالي الخريجين. ويحتل قطاع الأشغال العامة المرتبة الثانية بنسبة 17.2%، فيما يحتل قطاع الزراعة المرتبة الثالثة بنسبة 13.7% وقطاع الصناعة المرتبة الرابعة بنسبة 12.5%.

في تونس، لا تبدو وضعية الشباب أفضل حالاً، حيث يشير الخبير والباحث البيداغوجي عبد العزيز بن خليفة، إلى أن نسب البطالة المعلنة والتي تقدّر بـ15.2% غير دقيقة. إذ بحسب المعطيات التي أصدرها اتحاد أصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل، فإن عدد العاطلين من أصحاب الشهادات العليا يقدّر بنحو 340 ألف حامل شهادة جامعية، أي ما يقارب 40% من إجمالي اليد العاملة المستبعدة من سوق الشغل.
ويقول: "يستقبل سوق الشغل سنوياً حوالي 60 ألف متخرج جديد، في وقت ما تزال فيه الحكومة عاجزة عن استيعاب الطوابير التي طال انتظارها". ويستطرد محدثنا موضحاً خارطة الشعب المشغلة والغير مشغلة. حيث أصبحت بعض الاختصاصات محكوم على دارسيها بالبطالة، كاللغات والعلوم الاجتماعية، بل وتفاقم الوضع لتشمل القائمة خريجي الطب أيضاً. وتتفاوت نسب البطالة في بعض القطاعات العلمية، كالهندسة والصيدلة، مشيراً إلى أن نسبة العاطلين من خريجي الجامعات تضاعفت ثلاث مرات بين الأعوام 2013-2016.
لا يبدو واقع الشباب الجامعي في الأردن أفضل من نظيره المغاربي، حيث تفيد جليلة فرج، المتخصصة التربوية، بأن واقع سوق الشغل، وارتفاع نسب بطالة حاملي الشهادات الجامعية، انعكس على الطلبة وأشاع جواً من اليأس واللامبالاة على مستوى أدائهم ومستواهم الدراسي. وتقول: "إن معدل بطالة الجامعيين قد ناهز 36% عام 2014، لتصل نسبة الإناث في هذه الفئة إلى 80%".

وتضيف: "يقدر عدد الطلبة المتخرجين من مختلف الجامعات الرسمية والخاصة بأكثر من 80 ألف طالب وطالبة سنوياً، بينما تتراجع قدرة استيعاب هؤلاء في سوق العمل الذي يعاني من تخمة واضحة، حيث تشير دراسات وإحصاءات ديوان الخدمة المدنية إلى أن مجمل ما يمكن توفيره من وظائف للخريجين بشكل سنوي يراوح بين 10 آلاف و25 ألف فرصة عمل داخل الأردن وخارجه، أي أن نسبة التغطية لا تتجاوز 30% في أفضل الحالات".

طفرة الأيادي النشيطة
يشير التقرير العربي الأخير حول التشغيل والبطالة الصادر عن منظمة العمل العربية، إلى أن السبب الأبرز للاختلال الكبير بين مطالب الشغل من خريجي الجامعات وفرص العمل المتوافرة يعود إلى غياب التنسيق بين وزارة التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة التشغيل من أجل إحداث اختصاصات تتلاءم مع حاجة سوق العمل. كما أن البطالة وعدم التوازن بين العرض في العمل وسوق العمل معضلة تتجاوز الحلول على مستوى الهياكل الاجتماعية، لسبب واضح وهو أن الاختلال في المنظومة التشغيلية يعود لأسباب هيكلية، منها عدم تنظيم سوق الصناعة والخدمات بشكل طبيعي. هذا، ولم يغفل التقرير المذكور أن جزءاً من المشكلة يرتبط بتكوين العاطلين من العمل، وهو ما يستدعي التفكير جدياً في تغيير مناهج التعليم العالي بصورة تجعل أصحاب الشهادات أكثر قدرة على الاندماج في سوق العمل الذي تغيّرت متطلباته بشكل جذري خلال العقدين الماضيين. من ناحية ثانية، اعتبرت الدراسة أنه من المهم أن يتم التناغم بين سوق العمل وسوق الصناعة والخدمات وسوق المال لحل مشكل البطالة المزمنة.

يؤكد الخبير البيداغوجي عبد العزيز بن خليفة، أن تدني المستوى التعليمي في تونس وفي معظم الدول العربية، ساهم بشكل فعال في عجز خريجي الجامعات من مختلف الاختصاصات عن إيجاد موطن عمل في سوق متطلبة ومزدحمة. ويقول: "إن البرنامج التقييمي التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لقياس درجة الاستيعاب قد صنّف تونس بين البلدان الخمسة الأخيرة ضمن 65 دولة". وتمحورت الاختبارات حول القراءة والعلوم والرياضيات، وهي اختبارات في شكل استجواب معمّق.
هذه النتائج، بحسب بن خليفة، أثبتت فشل النظام التربوي في تونس. وبحسب الإحصاءات الصادرة عن وزارة التربية، فقد تم انقطاع نحو 130 ألف طالب عن صفوف الدراسة. ويلفت بن خليفة إلى أن وضعية التعليم في تونس، نتيجة طبيعية لتدهور المستوى جراء السياسة التي تبنتها الحكومة منذ عام 1991 بعد توقيع اتفاقية مع البنك الدولي تقضي بالرفع التدريجي لمساهمتها في التعليم، وهو ما دمر هذا القطاع.
من جهة ثانية، لقد ساهم إفراغ التعليم من محتواه في خلق أجيال من المواطنين "الفارغين" فكرياً واجتماعياً وثقافياً، إضافة إلى غياب سياسة حكومية واضحة لإصلاح التعليم بعد الثورة. وكأن التعليم آخر الاهتمامات، رغم أن تونس في مرحلة بناء، بحسب بن خليفة، مؤكداً أن التجاذبات السياسية هي المسيطرة أمام ملفات حساسة لها الأولوية المطلقة نظراً لارتباط إصلاح التعليم بمعضلة البطالة وجودة الإنتاج.
يواصل الباحث الاقتصادي عماد بن سليمان، تفسير العلاقة بين فشل المنظومة التعليمية وارتفاع معدلات البطالة، موضحاً أن السوق لم تعد قادرة على امتصاص العدد الهائل من أصحاب الشهادات العليا، إذ تم تحقيق اكتفاء ذاتي من كافة الاختصاصات، في ظل الوضع الاقتصادي الحالي المتسم بالانكماش والعجز. هذه الوضعية تتطلب، بحسب بن سليمان، إعادة دراسة الاختصاصات ومراجعة نسب التخرج السنوية الجامعية وتشجيع الطلبة على التوجه نحو الاختصاصات الأكثر طلباً في سوق الشغل.

ويضيف: "يعاني الاقتصاد التونسي مثلاً من عجز حقيقي في الموازنات العامة، ناهز 6% عام 2015، وهو ما دفع الحكومة إلى إعلان وقف التوظيف في المؤسسات العامة خلال السنة الحالية. وفي المقابل، ما يزال القطاع الخاص متردداً في الاستثمار وتوسيع أعماله والقيام بتوظيفات جديدة، وهو ما تترجمه إحصاءات وزارة الاستثمار التي أفادت بتراجع الاستثمار الخاص نحو 18% خلال السنة الماضية. أما النقطة الأخيرة، بحسب بن سليمان، فتعود إلى طبيعة الاقتصاد التونسي القائم على الخدمات والصناعات الخفيفة التي لا تتطلب يدا عاملة ذات مؤهلات عالية، إذ تبلغ نسبة الكفاءات أقل من 6% من إجمالي عدد العمالة في المؤسسات الصناعية.
يشير مالك سراي إلى أن القطاع العام تضرر بشكل ملموس نتيجة سياسة التعيين المباشر لحاملي الشهادات العليا والجامعية إضافة إلى خريجي المعاهد والمدارس المتخصصة في القطاعات الحكومية والمؤسسات الاقتصادية العمومية ضمن سياسة اجتماعية متكاملة، وهذا ما أدى إلى ظهور البطالة المقنعة بهذه الأجهزة. ويضيف سراي: "إن غياب التنسيق بين وزارة التعليم ووزارة التوظيف، أدى إلى تراجع عائد التعليم نتيجة تمكين الخريجين من مناصب عمل بدون مراعاة التخصصات التعليمية، وهو ما أفضى في نهاية المطاف إلى اختلال هيكلي بين القطاعات، إذ تسجل بعضها نقصاً في اليد العاملة في مقابل فائض في تخصصات أخرى".
يختم سراي: "إن ارتفاع معدلات البطالة، خصوصاً بين الشباب والمتعلمين، ناجم عن تدفق أعداد كبيرة من العمالة الجديدة والمتعلمة إلى أسواق الشغل وفشل الاقتصادات العربية في إيجاد وظائف كافية لهم في كل الدول العربية بما فيها الدول المنتجة للنفط"، مشيراً إلى أن نسق النمو الاقتصادي البطيء أدى إلى خلل هيكلي تجلى بدوره على شكل بطالة هيكلية. أما عن الحل، فيجيب سراي: "يجب تطوير مناهج التعليم العالي وتخصصاته، لتنمية قدرات الطلاب في مجالات البحث والتطوير والمهارات الفنية والتحليلية والتفكير المستقل، وزيادة الربط بين مؤسسات التعليم العالي وسوق العمل والصناعة، فالحل يجب ألا يكون ترقيعياً".
المساهمون