منديل حرير

07 يوليو 2015
لوحة للفنان الأميركي المعاصر ريتشارد فوكس (Getty)
+ الخط -
كان القمر يلقي بضوئه المتلألئ على ساحة المصنع الواسعة. أمام البوّابة، يمرّ بضعة أشخاص في عجالة. بينما كنت أسير فاتر الهمّة على خطى هؤلاء المارّة الذين لا أعرفهم، ناداني الحارس: "إلى أين؟"، قلت: "أتجوّل". سألني: "ألن تذهب إلى عرض الأكروبات؟". لم ينتظر حتى أجيبه واستطرد قائلاً: "الجميع ذاهبون؛ فهذا العرض لم يأتِ مثله من قبل إلى بورصة". قلت: "ليس لديّ نيّة الذهاب".
توسّل إليّ كثيرًا لأبقى في المصنع، حتى أقنعني. جلست قليلاً، دخّنت سيجارة، وقمت بغناء أغنية شعبية تركية. وبعد قليل شعرت بالضجر. قلت لنفسي: "ماذا أفعل". حملت هراوة الحارس، وخرجت لأتجوّل في المصنع.
وما إن مررت بمشغل الفتيات، حتى سمعت صوت طقطقة. قمت بإضاءة الكشّاف الصغير الذي كنت أحمله في جيبي. وقمت بتمشيط المكان. لاحت أمام وميض الكشّاف، قدمان حافيتان تحاولان الهرب. جريت وراءه حتى أمسكت به، ثم دخلنا إلى حجرة الحارس، أوقدت المصباح ذا النور الأصفر.
يا له من لص صغير! إذ إن يده التي كنت أمسكها بإحكام كانت صغيرة جدًا، كانت عيناه تلمعان. لا أدري لماذا تركت يديه. عندما استغرقت بالضحك، هاجمني بمطواة وجرح إصبعي الصغير.
أمسكت به بكلّ ما أوتيت من قوّة، وبحثت في جيوبه، فوجدت قطعة تبغ وورقتي سجائر مهربة، ومنديلاً نظيفاً.
غرست إصبعي المجروح في التبغ، ومزّقت المنديل وجعلته يربط يدي به. وبالتبغ المتبقي، قمنا بلفّ سجارتين، وتجاذبنا أطراف الحديث كصديقين حميمين.
كان في الخامسة عشرة من عمره. لم يكن هذا التصرف في الأصل من عادته، ولكن طيش الشباب دفعه إلى ذلك، ففكّر في هذه الحيلة عندما طلب منه شخص منديل حرير؛ ومن أين يأتي بمنديل حرير لجارته التي يحبّها، وهو لا يملك نقودًا ليذهب إلى السوق ويشتريه لها؟
قلت له: المصنع من هذه الناحية، فعلامَ كنت تبحث في الناحية المعاكسة؟
ضحك. فكيف كان يمكنه أن يعرف مكان المصنع. أعطيته سيجارة، وأخذت واحدة من سجائري القروية، وكأننا صديقين مقرّبين.
كان من بورصة. لم يولد أو ينشأ في إسطنبول، ذهب مرّة واحدة فقط في حياته إلى مودانيا*.
كان لديّ أصدقاء لهم صوته نفسه وقامته نفسها، عندما كنت أتزلّج على الجليد تحت ضوء القمر في منطقة الأمير سلطان. أنا متأكد أن لون بشرته يصبح داكنًا في الصيف تمامًا كلون بشراتهم. داكنة كأحواض "جوك ديره"*، التي نسمع صوت خرير مياهها من بعيد، داكنة كلون قشور فاكهة المواسم المختلفة.
أمعنت النظر إليه، فوجدت أن سمار بشرته أشبه بقشرة جوز بنية اللون سقطت قشرتها الخضراء، بينما كانت أسنانه البيضاء أشبه بقلب الجوز الطازج، الطيب المذاق.
أعرف أنه في بورصة، من بداية الصيف وحتى موسم الجوز، تنضح أيدي الأطفال برائحة الخوخ والبرقوق. وتحمل صدورهم البارزة من قمصانهم المخططة الخالية من الأزرار، عبير أوراق البندق.

اقرأ أيضاً: الأقحوان والسيف

في هذا الوقت، دقّت ساعة البوّابة الثانية عشرة؛ قد أوشك عرض الأكروبات على الانتهاء.
قال: دعني أذهب.
وحين كنت أفكّر في أن أعطيه منديل حرير، انتفضتُ بفعل الضجّة الآتية من الخارج. دخل الحارس وهو يتكلم بصوت مرتفع ويدفع اللصّ أمامه.
هذه المرّة شددت أذنه، وقام الحارس بضربه بجذع صفصاف رفيع على باطن قدميه. ومن حسن الحظ أن المدير لم يكن موجودًا، وإلا لكان سلّمه إلى الشرطة. قال الحارس: "طفل في مثل هذا العمر، ولصّ؟ يا سيدي ضعه في السجن حتى يعقل".
لم يبكِ من ترهيبنا له. عيناه فقط، كانتا تشبهان عيون الأطفال عندما يستعدّون للبكاء. لم تظهر رعشة طفيفة على شفتيه، كان حاجباه ثابتين، لم يهتزّ أو تنهَر عزيمته قط. كان الجو عاصفًا بعض الشيء.
وبمجرد أن أطلقنا سراحه، انطلق بسرعة كعصفور سنونو بسط جناحيه هاربًا فوق حقول الذرة التى يعتليها ضوء القمر.
كنت أنام في الطابق العلوي من المصنع، حيث كانت تخزّن فيه البضائع.
عادةً ما يحدث شيء لطيف في الليالي المقمرة. كانت بجوار النافذة شجرة توت، يخترق ضوء القمر أوراقها ويدخل إلى الحجرة. كنت أترك نافذة الحجرة مفتوحة دائمًا، أكان الفصل صيفًا أم شتاءً.
لم تهب أي رياح لطيفة أو غير معتادة. عندما كنت أعمل على المراكب، كنت أستطيع التمييز بين روائح الرياح المختلفة: ريح جنوبية، شمالية شرقية، أو شمالية غربية. لكن الريح التي مرّت فوق بطانيتي، كانت أشبه بحلم عجيب، يذهب ويجيء.
نومي خفيف جدًا، عند بزوغ الفجر، سمعت صوت ضوضاء آتية من الخارج، وكأن هناك شخص فوق شجرة التوت. تملّكني الخوف. لم أنهض أو حتى أصرخ عندما لاح خيال من النافذة.
كان يتسلّل ببطء، وعندما مرّ أمامي، أغلقتُ عيني. أخذ يقلّب في الأدراج، ويبعثر البضاعة المخزّنة لوقت طويل. لم أتفوّه أو أصدر صوتًا. على الأرجح لم أكن سأبدي أي رد فعل أو حتى أصرخ، بفعل جسارته التي أثّرت فيّ، حتى ولو حمل البضاعة الموجودة كلّها وذهب، أو حتى لو قال لي المدير غدًا:
"هل كنت ميتًا يا حيوان"، ثم ركلني، وكان سيطردني حتمًا.
تسلّل من النافذة بصمت وهدوء كما جاء، من دون أن يحمل معه شيئًا. في ذلك الوقت سمعت خشخشة جذع شجرة ينكسر. لقد وقع.
عندما نزلت إلى أسفل، وجدت الحارس وبضعة أشخاص يلتفّون حوله، أما هو فكان يلتقط أنفاسه الأخيرة، وعندما فتح الحارس قبضة يده المغلقة بإحكام، تدفّق منها كالماء منديل حرير.
أجل... هكذا تكون المناديل الحريرية الجيدة الخالصة. تحتفظ بها كما شئت، منكمشة في داخل يدك. ولكن عندما تنفتح يدك، تتدّفق منها كالماء.
(ترجمة مي عاشور عن التركية، مترجمة مصرية)
*مودانيا، مدينة صغيرة وإحدى ضواحي بورصة.
*جوك ديره، قرية.
المساهمون