قوة اللغة

09 نوفمبر 2015
لوحة للفنان الصيني شن لين كسين (Getty)
+ الخط -
تكشف الكاتبة الكتلانية ماريا باربال، في سياق اللقاء الخاص معها في هذا العدد، النقاب عن جانب مثير من "سياسة الخنق" التي انتهجها حُكم فرانكو الديكتاتوري في إسبانيا وخصوصًا فيما يتعلق بالكتّاب الكتلان، وهو جانب السماح لهؤلاء الكتّاب بنشر أعمال معينة ومحدودة لكن بعد إخضاعها إلى رقابة مُشدّدة تتدخّل في كل جملة. 

وبذا تضعنا الكاتبة وجهًا لوجه أمام ضرورة البحث في "الإرث" الذي خلفته وراءها أنظمة حُكم مماثلة لنظام فرانكو على الصعيد الثقافي العام.

سبق لي في مقام آخر أن أشرتُ ضمن سياق متصل، إلى مقولة لأحد كتاب أميركا اللاتينية رأى فيها أن الديكتاتورية ليست فقط الإذلال والتعذيب والقهر، "إنما هي أيضًا عبارة عن انهيار بطيء لمجتمع بأكمله".

اقرأ أيضًا: تدريب العين أخلاقيًا

وعلى صلة بها ما تزال ماثلة في أذهاننا، مقولة ثيودور أدورنو التي أكد فيها أن "الفاشية لم تكن مؤامرة فحسب، وإن كانت أيضاً شيئاً من هذا القبيل، وإنما نجمت أساسًا عن نزعة تطوّر اجتماعية جارفة"، مشدّدًا على أن "اللغة تتيح لها ملاذًا. ففيها -في اللغة - تنعكس الكوارث المستمرة كما لو أنها الخلاص المُشتهى"!.

ولغرض تحديد (من الحدّة) موضوع قوة اللغة، سواء للسلب أو للإيجاب، سأستعيد هنا مساهمة جورج أورويل في هذا الشأن، والمتمثلة أساسًا بمقال له حمل عنوان "السياسة واللغة الإنكليزية" نشره سنة 1946، بعد ظهور روايته "مزرعة الحيوان" بعامين.

عرض أورويل في هذا المقال القصير- بحسب قراءة قدمّها الأكاديمي المصري عماد عبد اللطيف الأستاذ المتخصّص في البلاغة وتحليل الخطاب السياسي - أفكاره الأساسية حول اللغة السياسية المستخدمة عالميًا أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وخرج منه بقاعدة فحواها أنه "حين يكون المحيط العام سيئًا لا بدّ وأن تعاني اللغة".

وحظي المقال باهتمام كبير من قبل دارسي اللغة السياسية على مدار العقود التالية.
يقول أورويل إن تلك "اللغة السياسية صُمِّمت كي تجعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق، وكي تقتل ما هو جدير بالاحترام".

اقرأ أيضًا: قصة قصر!

ويقول عماد عبد اللطيف إنه حين تكون الوظيفة الأساسية للخطب والكتابات السياسية هي "الدفاع عن سياسات لا يمكن الدفاع عنها أو تبريرها في الواقع"، فإن اللغة التي تستطيع "جعل الأكاذيب تلبس ثوب الحقائق" تصبح أداة حتمية لضمان استمرار هذه النظم. وهو ما يؤدي بدوره إلى تدعيم هذه اللغة الفاسدة "المضلِّلة"، وتقويتها حتى تُصبح مهيمنة ومسيطرة، بينما تُحارَب اللغة "الصالحة" الكاشفة، بما يؤدي إلى اختفائها وتواريها. وبرأيه يبقى الصراع الناشئ بين اللغتين الكاشفة والمُضلِّلة غير متكافئ، لكون السلطة الديكتاتورية تدعم اللغة الثانية، وهو ما يؤدي إلى ظهور لغة ديكتاتورية تُمارس إقصاءً وإسكاتًا لأي لغة أخرى.

وتستطيع اللغة الديكتاتورية تحقيق وظيفتها الرئيسية - أي الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه - بواسطة ظواهر مرادفة بالإضافة إلى استعارات فاسدة وكلمات طويلة ومصطلحات منهِكة. وهذه الظواهر تمثل بعض الخصائص اللغوية والبلاغية للخطاب السياسي الفاسد الذي يلجأ إليه الشخص بشكل غريزي حين "توجد فجوة بين أهدافه الحقيقية والمعلنة". ويضرب أورويل أمثلة لبعض هذه الظواهر من زمانه مثل إطلاق تسمية "عمليات التهدئة" على تدمير قرى عزلاء من الجو، وتهجير سكانها بعيدًا عن أوطانهم، وضرب قطعان ماشيتهم بالرشاشات، وإضرام النار في أكواخهم، أو إطلاق تسمية "تسفير السكان" على انتزاع ملايين الفلاحين من أراضيهم وتركهم هائمين في الطرقات، أو إطلاق اسم "التخلص من العناصر التي لا يمكن الاعتماد عليها" على عملية إطلاق الرصاص على مؤخرات رؤوس أفراد الشعب، أو إلقائهم في السجون لمدد طويلة من دون محاكمة.

كما يعتقد عبد اللطيف أنه لو عاش أورويل حتى بدايات القرن الحادي والعشرين ربما كانت ستنتابه الدهشة، وهو يقرأ ويشاهد صحفًا وقنوات فضائية وبشرًا يعيدون إنتاج هذه اللغة المضلّلة.

ضمن هذا الإطار تشبه اللغة قوى الطبيعة الجبارة التي تنشر الازدهار والبركة عندما تجلب المطر، لكن هذه القوى نفسها من شأنها أن تلحق الدمار والكوارث الرهيبة بعالمنا. ويعكف الإنسان على كبح هذه القوى من أجل فائدته.

لكن بينما يتكلم أنصار اللغة الكاشفة كثيراً عن قوّة اللغة والكلمة، ينسون أن أعداءهما ما زالوا مدركين كيفية استغلال هذه القوة في سبيل جعل اللغة أداة شيطانية تسمم روح البرايا من الطفل حتى المُسن.

في الوقت عينه يستثمر البشر الكثير من الجهد من أجل وضع حدٍّ لتلوّث الجو والمياه والأرض وبالكاد يدلون بدلوهم في شأن تلويث اللغة.
المساهمون