يعد شهرا إبريل ومايو مميزين في تونس، وخصوصاً في محافظة نابل التي تنتج أنواعاً مختلفة من الورود، وتعمل نساؤها على تقطيرها لإنتاج المياه والزيوت التي يقبل التونسيون على شرائها. وتُنعش رائحة الورد العربي والنسري والعطرش والنارنج وغيرها من الورود محافظة نابل (تقع على الساحل الشرقي لشبه جزيرة الرأس الطيب وتبعد حوالي 67 كيلومتراً عن العاصمة تونس) هذه الأيام. وتملأ الروائح وسط المدينة والشوارع الرئيسية طوال فصل الربيع. وتُباع بالكيلوغرام لكلّ من يرغب في تقطيرها لصنع ماء الورد والعطرش وماء الزهر، أو لصنع زيوت عطرية تستعمل في مواد التجميل، إذ تمتاز المنطقة بإنتاج عدة أنواع من الورود والزهور التي تستخرج منها الزيوت للتجميل واستعمالات أخرى.
وتشتهر نساء نابل بقدرتهن على تقطير مياه تلك الورود واستخراج زيوتها بوسائل تقليدية. ويعدّ فصل الربيع بالنسبة لهن فرصة لتقطير جميع أنواع النباتات، وخصوصاً النارنج والعطرش والنسري، والتي تستعمل مياهها لإضافة نكهات على العديد من الحلويات التقليدية التونسية. أما زيوتها فتستخدم في صناعة مواد التجميل أو بعض العلاجات على غرار زيت الزعتر والعطرش لتخفيف آلام المفاصل.
في هذا السياق، تقول داودة بن سالم التي تعدّ من بين أشهر النساء في محافظة نابل التي تتقن تقطير جميع أنواع الورود بوسائل تقليدية إن "غالبية النساء في المنطقة يعملن منذ شهر إبريل/ نيسان وحتى أواخر شهر مايو/ أيار بتقطير الورد العربي والنارنج والعطرش والنسري والإكليل والزعتر وغيرها وبيع مياهها وزيوتها لاستغلالها في استعمالات عدة. ولا يكاد يخلو بيت تونسي من جميع مياه تلك الورود والنباتات نظراً لكثرة استعمالها في صناعة بعض الحلويات وأخرى تجميلية للوجه والشعر. كما تستعمل بعض الزيوت لعلاج أمراض على غرار زيت العطرش وزيت الزعتر وزيت إكليل الجبل. هذه الزيوت تساعد في تسكين آلام المفاصل وعلاج بعض الأمراض الصدرية".
وسط المدينة، ينتشر باعة الورود والنباتات خلال شهري إبريل ومايو لبيع مختلف أنواع الورود التي تتميز بعطور منعشة. وتزدهر تجارة الورود في هذا الفصل، إذ يقبل الجميع على شرائها، سواء من ربات البيوت أو من أصحاب مشاريع بيع مياه وزيوت تلك الورود.
من جهته، يقول أحد بائعي الورود عامر بالشيخ لـ "العربي الجديد" إنّ نابل تتميز بإنتاج عدّة أنواع من الورود، لا سيما النارنج والنسري والورد العربي، كما تتميز جميع نساء المنطقة بقدرتهن على تقطير جميع أنواع النباتات والورود. لذلك، تنشط تجارتهن الموسمية خلال هذه الفترة. وتنظم المحافظة سنوياً مهرجان التقطير خلال شهري إبريل ومايو في الساحات العامة بمختلف جهاتها. وتشهد الجهة توافد مئات الزوار لشراء الورود أو مياهها وزيوتها.
وتفوح رائحة تقطير الورود في شوارع المدينة منبعثة من غالبية البيوت. ويقول سكان المنطقة إن الأندلسيين الذين قدموا إلى تونس هم من جلبوا شجرة النارنج وتلك العادة إلى المنطقة، وتوارثت الأجيال تقطير الورود منذ أكثر من 500 سنة. وتبيع النساء منتجاتهن في السوق أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ويقبل تونسيون خلال هذه الفترة على شراء كل ما يعرض، إذ إن معظمهم يستخدمون تلك المنتجات على مدار العام. ويحفظ ماء الورد والزهر أو زيوته في قوارير بلورية تسمى "فاشكة"، وتزيّن بأشكال مختلفة.
ويُقبل سكان العديد من الجهات الأخرى على تقطير الورود. وتُباع غالبيّتها في مناطق عدة لتنشط تجارة النباتات العطرية خلال هذا الفصل في تونس.
ويزرع العديد من أصحاب المشاريع الزراعيّة أنواعاً مختلفة من الورود العطرية التي تباع خلال هذه الفترة، وخصوصاً أن العديد من منتجي العطور يقبلون أيضاً على شرائها لصنع العطور.
قبل خمس سنوات، زرع أحمد عبد السميع الورد العربي على امتداد أكثر من أربعة هكتارات، لينتج سنوياً كميات كبيرة من الورود، يبيع جزءاً كبيراً منها في أسواق محلية عدة وإلى منتجي العطور. يقول لـ "العربي الجديد" إن "الورد العربي يشهد إقبالاً كبيراً خلال هذه الفترة، وخصوصاً في محافظة نابل حيث تقوم النساء بتقطيره وبيعه في عدة أسواق. ويعد مشروع مربحاً، لا سيما أن التونسيين يقبلون على شراء ماء الورد وزيوته بكثرة".
وتشهد تجارة مياه الورود وزيوتها انتعاشة كبيرة في أسواق عدة. ويعرض التجار بضائعهم حتى على الطرقات، ليباع الليتر الواحد من مياه تلك الورود بـ 10 دولارات، فيما يباع الليتر الواحد من تلك الزيوت بأكثر من 100 دولار. ويصل سعر الليتر الواحد من زيت بعض تلك الورود إلى حوالي ألف دولار، لتستعمل في صناعة العطور ومواد التجميل.
ويقول بعض منتجي تلك الزيوت إن إنتاج الليتر الواحد من تلك الزيوت يحتاج إلى كميات كبيرة من الورود. لذلك، فإن أسعارها باهظة مقارنة بمياهها.
يشار إلى أن التقطير يحدث بطريقة تقليدية. توضع الورود في وعاء من النحاس أو الطين يسمى القطّار مع قليل من المياه، ويغطى جيداً وتوقد النار تحته. ويفضل السكان تقطير الورود على الحطب. وبمجرّد أن تغلي المياه، يتحوّل إلى بخار يسري في أنبوب طويل، ويمرّ عبر إناء آخر كبير من الفخار مليء بالماء البارد ليصبّ في قارورة بلورية تسمّى فاشكة تملأ بقطرات الورد المقطر، الذي يلقبه سكان المنطقة بالذهب الشفاف، لأنّه يوفر لهم مداخيل موسمية مهمة، سواء للنساء العاملات في التقطير أو لبائعي ومنتجي الورود.