عندما منحته أمّه اسم وحيد، كانت ترنو إلى الفرادة والتميّز ولم تدرك، سوى لاحقاً، أنه سيشقّ طريقه وحيداً ومعزولاً ومنبوذاً أحياناً، يحتمي بالأحلام وينفث غيمة يعيش فوقها ويلوذ بعالم متخيّل صنعه يوماً بعد يوم وليلة بعد الأخرى. قد تكون قصّته فريدة للوهلة الأولى، إلا أنها للأسف قصة ملايين اللاجئين عبر العالم. ولم تعد ملهمة ومحفّزة كما كانت لتبدو قبل عقود، وسط تصاعد العنصرية وخطاب الكراهية ضدّ اللاجئين. يعيش اليوم عشرات الآلاف من طالبي اللجوء في بريطانيا خوف الترحيل إلى رواندا أو العودة القسرية إلى بلدهم الأصلي إن كان "آمناً" وفقاً لتعريف الحكومة البريطانية.
وتُصرّ وزيرة الداخلية من أصول مهاجرة سويلا برافرمان على المضي في خطّتها الجديدة التي تستهدف أي طالب لجوء يصل إلى بريطانيا بوسائل "غير قانونية"، بمن فيهم أصحاب "الهويات القاتلة" من سورية والعراق وأفغانستان وإيران ومصر والسودان وليبيا وغيرها. سبق لبرافرمان أن وصفت نفسها بـ"إبنة الإمبراطورية البريطانية"، التي لجأ والداها من كينيا وموريشيوس في ستينيات القرن الماضي إليها بحثاً عن حياة أفضل وفرص عادلة.
لم يكن ليقدّر لوالديها تحقيق هذا الحلم لو أنهما وصلا اليوم إلى شواطئ بريطانيا، إذ سيجرى احتجازهما وترحيلهما على الفور إلى رواندا أو إلى بلدهما الأصلي وفق الخطة الجديدة. ولم يكن ليقدّر أيضاً لوحيد آريان الذي وصل إلى بريطانيا عام 1998، حين كان في الخامسة عشرة من عمره، أن يصبح واحداً من أكثر الأطباء شهرة في بريطانيا لو أنه وصل اليوم. كان سيحتجز أيضاً وفقاً للخطة على الرغم من أنه لم يبلغ السن القانوني بعد، ويرحّل على الفور.
يروي آريان لـ"العربي الجديد" قصّته التي تبدو للحظات وكأنها مأخوذة من رواية أو فيلم سينمائي، ليس فقط لأنه ولد وسط الحرب السوفييتية في أفغانستان، ولا لأن والده كان هارباً من الخدمة العسكرية، ولا حتى لأن وعيه الأول مرتبط بمشاهد الدبابات والمعارك والخوف، بل لأنه نجا أيضاً من حكومات حزب المحافظين المتعاقبة وسياساتهم المعادية للاجئين أكثر فأكثر، وعاماً بعد عام.
هربٌ منذ الطفولة
كان آريان في الخامسة من عمره عندما بدأ رحلة الهرب واللجوء. لم ينس بعد الأيام السبعة التي أمضاها مع عائلته المكونة من 8 أفراد في عبور الجبال والوديان للوصول بأعجوبة إلى بيشاور (باكستان)، حيث سيتكدّسون في خيمة صغيرة لعامين ونصف العام، وسيصابون بأمراض عدة كالملاريا والسلّ، وسيجوعون وستكون عيادة الطبيب الذي عالج وحيد من السلّ هي "المساحة الفكرية الوحيدة التي يختبرها خارج المخيم"، وستكون الحلم الوحيد الذي سيتكئ عليه ليصمد ويعيش. أخبره الطبيب يومها أنه هو أيضاً سيصبح طبيباً في يوم من الأيام. بدأ باختراع "ذلك العالم المتخيل" حيث يعيش الأطفال حياة طبيعية مع عائلاتهم، يقصدون المدرسة ويتجمعون حول مائدة الطعام مساء ليأكلوا معاً ويتبادلون القصص والتجارب والنكات. يقول آريان إنه اخترع ذلك العالم المتخيل على ضوء الشموع والمصابيح وتحت سقف الخيمة القماشي، وفي زحمة الأجساد المتراصّة، وعبر إذاعة "بي بي سي" الإخبارية التي تبثّ باللغة الإنكليزية وكانت نافذته الوحيدة على العالم الواقعي والطبيعي.
لم يعودوا إلى العاصمة الأفغانية كابول حتى بلغ والده الأربعين، لأن عمره يعفيه من الانتساب إلى الجيش والقتال إلى جانب السوفييت، إلى أن استولت حركة "طالبان" على السلطة "لينهار كل شيء" وتدلف البلاد إلى "مزيد من العزلة". بلغ وحيد الخامسة عشرة من عمره عام 1998، وصار معرّضاً بدوره لإمكانية "سحبه إلى الخدمة العسكرية" عدا عن الافتقار إلى الجامعات. وبالتالي، لن يستطيع تحقيق حلمه بدراسة الطب. لم يكن في وسع العائلة أن ترحل بعضها مع بعض، و"الوسائل النظامية" التي تتحدث عنها الحكومة البريطانية اليوم لم تكن موجودة ذلك الحين، كما أنها غير متوفرة اليوم أيضاً.
باع والده بيتهم وكل ما يملكون لتوفير مبلغ كبير طلبه أحد العملاء حتى يتمكن من إصدار جواز سفر و"وثيقة لجوء" تمكّن وحيد من السفر وحده إلى بريطانيا عبر الطائرة "لتحقيق أحلامي". إلا أن وثيقة اللجوء كانت مزوّرة، وبدلاً من أن يصل إلى بلد الحريات، وجد نفسه وحيداً في أحد سجون لندن حيث مكث أسبوعين بتهمة "حيازة أوراق مزوّرة"، ثم في المحكمة.
وكّلت له الحكومة محامياً دافع عن "حقي البديهي في اللجوء استناداً إلى إتفاقية جنيف 1951 الخاصة باللاجئين". ولم تنته رحلة وحيد الشاقة مع النطق بالحكم لصالحه في الحصول على حق اللجوء، إذ أمضى ما يقارب ثلاث سنوات في انتظار الحصول على اللجوء والحق في الدراسة والعمل.
وما إن بلغ السادسة عشرة، أي السن القانونية التي يحق فيها للفتيان أن يعيشوا بمفردهم في بريطانيا أو أن يطلب منهم أهلهم مغادرة البيت، وجد نفسه في شوارع لندن ليكتشف الحياة بعينيه الغريبتين ويختبرها بيديه وجسده الهزيل "مثلي مثل كل الأشخاص الفارّين من مناطق النزاع والصراع في بلدانهم، حاملين معهم ندوب الحرب واضطرابات ما بعد الصدمة".
احتاج إلى بعض الوقت كي يدرك أن "هذا الجسم الأحمر ذو الطابقين هو الباص البريطاني وليس دبابة". كان يستيقظ مرعوباً في منتصف الليل وقد زاره القناص في الحلم فيركض إلى أقرب نافذة في البيت الذي يسكنه مع لاجئين آخرين، وينظر إلى شارع بورتوبيللو الغارق في العتمة ليتذكر أنه في لندن وليس في كابول. إلا أن هذه التجربة المرعبة ساعدته لاحقاً في التواصل مع اللاجئين كطبيب وفهم معاناتهم وصدماتهم وحالاتهم النفسية المتعبة. يشكو وحيد من عدم توفّر آليات الدعم المناسبة في بريطانيا في ملف التعامل مع الصدمات والمحن التي يمرّ بها طالبو اللجوء وغيرهم. وانطلاقاً من تجربته في العمل في الصفوف الأمامية، يرى وحيد أن هيئة خدمات الصحة الوطنية "تفتقر بشكل عام إلى وحدة مختصة بالصحة العقلية ما بعد الصدمة، فما البال بكيفية التعاطي مع اللاجئين؟".
سوق سوداء
تختصر قصة آريان عشرات آلاف القصص، وتكشف الصعوبات الحقيقية التي تعترض طريق اللاجئين من الأطفال على وجه الخصوص. وهذه الصعوبات باتت اليوم أكثر خطورة وقسوة، إذ باتت ظروف اللجوء مختلفة، وفي بعض الأحيان يعيش اللاجئ هنا اليوم ما عاشه وحيد في بيشاور، من الافتقار إلى الحدّ الأدنى من الغذاء والإمكانيات وسط تفشي الأمراض المعدية، وهذا ما حدث قبل أشهر في مركز مانستون في مقاطعة كينت، حين وضعت وزارة الداخلية أكثر من 4 آلاف طالب لجوء في مبنى لا يتسع إلا لألف وأربعمائة شخص كحدّ أقصى. ومثله مثل عشرات الآلاف من الأطفال اللاجئين، كان ممنوعاً من دخول المدرسة أو العمل ريثما يحصل على اللجوء بشكل رسمي، فاضطر للالتحاق بـ "السوق السوداء" سواء للعمل أو الدراسة. من بائع إلى عامل مطبخ ثم عامل تنظيفات بالتزامن مع كتب الدراسة الصعبة جداً بالنسبة إلى طفل أفغاني، استطاع آريان الحصول على معدّل مرتفع جداً، ما أتاح له دخول جامعة كامبريدج العريقة لدراسة الطب وسط ذهول عائلته وأصدقائه اللاجئين. يقول إن "من نجا من القنابل الروسية ليس لديه ما يخسره"، وهذا ما دفعه للمغامرة في التقدّم إلى جامعة لا يدخلها إلا أبناء العائلات الأرستقراطية، وشجّعه على تحمل سنوات الدراسة التي فرضت عليه "عزلة مريرة ووحدة موجعة" وسط جمع من الطلاب البعيدين تماماً عمّا عاشه طفل لاجئ.
يحكي آريان كيف أن هويته الحقيقية كلاجئ أفغاني "ساهمت في عزلته أكثر ومنعته من إقامة صداقات مع زملاء الجامعة"، إذ إن الأحاديث المشتركة تكاد تكون معدومة، بالإضافة إلى "وصمة العار" التي تسبّبت بها "هجمات 11 سبتمبر والنظرة التنميطية ضدّ المسلمين وتحديداً ضد الأفغان". كل تلك التفاصيل جعلته يتخفّى وراء هوية متخيّلة حتى أصبح طبيباً عام 2010، وأدرك أن مساعدة الآخرين على النجاة ستساعده هو أيضاً على النجاة والاستمرار. أسس جمعية "آريان" الخيرية لربط أطباء هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا بمناطق النزاع في باقي أنحاء العالم، مثل أفغانستان وسورية وبعض مناطق أفريقيا، لتقديم الاستشارات الطبية عبر الهاتف مجاناً.
نظام لجوء بلا أساسيات
وانطلاقاً من تجربته الشاملة كلاجئ سابقاً وطالب معدم وطبيب حالياً، يرى آريان أن "نظام اللجوء في بريطانيا يفتقر إلى الأساسيات، وتأمين الفنادق لطالبي اللجوء ليس المهمة المرجوة من الحكومة"، إذ إن التفاصيل الأخرى أكثر أهمية من غرف الفنادق الصغيرة تلك، ولا يمكن لأي غرفة مغلقة أن تتسع لأهوال الحروب وأن تمحو الاضطهاد. ما يحتاجه اللاجئون هو "مساحة مفتوحة ومجتمع يستطيعون العيش فيه والدراسة والعمل والعثور على معنى لحيواتهم، وهو أمر لا يقدّمه نظام الهجرة لدينا". ولا يستطيع آريان إلا أن يتخيّل مصيره لو أنه وصل اليوم إلى بريطانيا وليس قبل 25 عاماً. يقول: "حياتي ستكون مختلفة تماماً. قدمت إليها بحثاً عن الأمان وحالماً بامتلاك القدرة على الدراسة والعمل، والقدرة على امتلاك حياة جديدة تماماً. لم آت إلى بريطانيا كي أُرحّل إلى رواندا أو إلى أي مكان آخر". ويشير إلى أن "الحكومة عندما تحرم اللاجئين من فرصة امتلاك حياة جديدة في هذا البلد، فهي تحرمهم من امتلاك مستقبلهم وفرصة الشفاء من جراحهم وأزماتهم النفسية".
ويرى آريان أن إحدى ميزات المجتمع البريطاني تكمن في تنوّعه، وأن الحكومة تعمل عبر خطّتها الجديدة على "إلغاء هذا التنوع"، وخصوصاً أن مجتمع اللاجئين أنتج في بريطانيا أطباء ومحامين ومهندسين وصحافيين ومفكّرين وتجّاراً، وبالتالي كانت لهم "إنجازاتهم ومساهماتهم في إغناء المشهد العام وبناء مجتمع عالمي أقوى وأكثر ثراء".
لكن ما الذي تغيّر اليوم وكيف أضحت هذه البلاد الشاسعة أضيق من غرفة فندق بالنسبة لعشرات الآلاف من اللاجئين؟ يقول آريان إن قضية اللاجئين "باتت مسيّسة أكثر من الماضي، والحكومات تستخدمهم سلاحاً تقاتل فيه الرأي الآخر لتحقيق مكاسب سياسية. من جهة أخرى، من المحزن القول إن لا صوت للاجئين وإن الإعلام يساهم أحياناً في تغييب قضاياهم أو حشرهم في قالب واحد. لذلك نرى أن الصورة النمطية حولهم تتعزّز يوماً بعد يوم وسنة بعد الأخرى، والسردية السلبية هي التي تصمد لأنهم لا يمتلكون وسائل الدفاع عن أنفسهم، وليس لديهم صوت أو سلطة للتعبير". والأخطر بالنسبة إلى آريان هو "أننا نرى أشخاصاً طيّبين وغير عنصريين من البريطانيين غارقين في تصوّر سلبي خاطئ عن اللاجئين بسبب سياسات الحكومة البريطانية التي تسيّس القضية وتستخدمها سلاحاً، الأمر الذي يؤثر على الاندماج وبالتالي على الصحة النفسية والذهنية لشريحة اللاجئين ويلحق الضرر بالمجتمع الأصلي".
وفي ظل غياب استراتيجية واضحة، وفي ظل سياسات الحكومة "المعادية" للاجئين "الغزاة" على حدّ تعبير وزيرة الداخلية البريطانية، تسعى منظمات المجتمع المدني والمؤسسات والجمعيات الخيرية إلى وقف تدهور الأوضاع السيئة التي يعيشها طالبو اللجوء في بريطانيا، عبر الدفاع عنهم والإنصات إلى قصصهم وتبنّي قضاياهم وعرقلة خطط الحكومة لترحيلهم إلى "مصير مجهول".
ومن خلال روايته قصّته، يحاول آريان أن "ينوب عن اللاجئين ويوصل أصواتهم إلى وسائل الإعلام المحلية"، جنباً إلى جنب مع العمل الذي تقوم به جمعيته الخيرية عبر التواصل مع أكبر عدد ممكن من اللاجئين المصابين بالصدمات لمساعدتهم، أو عبر التواصل مع المستوصفات المحلية وتزويدهم بمتخصصين بالعلاج النفسي.