يقبل مواطنون مصريون على زيارة "حديقة الحيوان" لإلقاء "نظرة الوداع" حسب قول أحد عشاقها، قبل أن تمحو السلطات ذكريات كتبوها على أغصان أشجارها العتيقة، أو امتلأت بها دفاتر ذكرياتهم وألبومات صورهم، بعد كشف الحكومة عن مشروع "للاستفادة من الأصول ورفع كفاءة الخدمات، وتعظيم الاستفادة من حديقتي الحيوان، والأورمان" المقابلة لها.
لم تمنع رياح الشتاء الباردة مئات الأسر من اصطحاب أطفالها في العطلة الأسبوعية لقضاء الوقت في مداعبة الحيوانات، والجلوس تحت أشجار بعضها اختفى في أنحاء البلاد، لكنها مازالت صامدة في قلب الحديقة التي تعتبر من بين الأقدم في العالم.
على بوابة "الجبلاية الملكية"، يجلس رجل خمسيني يرشد الزائرين إلى قلعة شامخة شيدت في العهد الملكي من الشعاب المرجانية على شكل كهوف، فضلاً عن مجسمات "وحيد القرن الفيومي" المنقرض قبل ملايين السنين، ومجسمات حيوانات عدة متراصة على الحواف، وأرائك من الرخام، وصنوبريات نادرة.
يخشى الرجل أن يطأ الزائرون النباتات النادرة التي يرعاها منذ 35 عاما، ويدعوهم إلى الحفاظ على القلعة التي شيدها الخديوي إسماعيل، داخل "سراي الجيزة" التي تحولت من قصر ملكي إلى حديقة عامة في سنة 1867، لتصبح الثانية في العالم، بعد حديقة حيوان لندن.
يلاحق الحارس الزائرين بالتعليمات، ما دفعنا إلى سؤاله: ماذا ستفعل لو باعت الحكومة حديقة الحيوان أو منحتها لشركة خاصة خلال الفترة المقبلة؟ يظهر الغضب المشوب بعدم التصديق على ملامحه، لكنه لا يملك جواباً.
كانت الحكومة قد غافلت الرأي العام بمشروع خصخصة حديقة الحيوان بينما الغالبية منشغلة بارتفاع الأسعار الذي عجل بسقوط ملايين الأسر تحت خط الفقر. بشرت الحكومة في بيان لوزارة الزراعة، بمشروع يعيد حديقة الحيوان إلى التصنيف الدولي الذي خرجت منه في عام 2004، لعدم قدرتها على توفير بيئة طبيعية للحيوانات، فضلاً عن ضغوط مالية حدت من زيادة أعدادها.
أسندت الوزارة عملية التطوير إلى هيئة الإنتاج الحربي، وشركات دولية تحالفت معها، وتقول إنها ستنفق على إعادة تطوير حديقتي الحيوان والأورمان، ورفع العائد السنوي من التشغيل من دون أن تمس بملكية الدولة للحديقتين.
وبرر المتحدث باسم الوزارة، محمد القرش، في لقاء تلفزيوني، الصفقة المفاجئة، بأن الحديقة لم تشهد تطويراً حقيقياً منذ إنشائها، متجاهلاً حقائق تاريخية مثبتة لشخصيات أضافت علامات بارزة، وأخرى أزالت لافتات قديمة، ووضعت أخرى باسمها لتنال شرف ذكرها في صفحات تاريخ "منتجع الفقراء".
وتاريخياً، شيد الخديوي إسماعيل "سراي الجيزة" على مساحة 500 فدان، عقب تحويل مجرى نهر النيل من وسط القاهرة الفاطمية، بقطعه عند مدخل ساقية مجرى العيون في منطقة "عين الصيرة"، لتظهر الأرض التي تحولت إلى حديقة الحيوان ومتنزه الأورمان.
انفصلت الحديقة عن متنزه الأورمان باريسي الطراز، عندما تبرعت الأميرة فاطمة ابنة الخديوي، بأرض لبناء جامعة القاهرة في عام 1908، واحتاج ذلك إلى شق طريق "نهضة مصر" المؤدي إلى مدخل الجامعة الرئيسي. لاحقاً اقتطع جزء ثان لبناء "المهندسخانة"، أو كلية الهندسة الحالية.
بمرور الزمن، تراجعت مساحة الحديقتين من 80 فداناً إلى 30 فداناً لحديقة الحيوان، وأقل منها لحديقة الأورمان، وشهدت الحديقة بناء أكشاك الطيور في عام 1899، وبيت الفيل في 1900، وأكشاك النسانيس في 1904، وجبلاية القلعة في 1912.
تضم الحديقة التحفة المعمارية "جسر غوستاف إيفل المعلق" الذي بناه المعماري الشهير في 15 يونيو/حزيران 1911، قبل تشييد "برج إيفل" في باريس بعشر سنوات، وأضاف الملك فاروق إليها قلعة الشمعدان، وجزيرة الشاي، وبحيرة البجع، وكان يبيت بها في استراحة تحمل اسمه، وظهرت محتوياتها في لندن قبل سنوات قليلة.
أزالت سوزان مبارك زوجة الرئيس الراحل، لوحة إنشاء "جبلاية القلعة" في عام 1997، لتضع على مدخلها لافتة تظهر أنها أشرفت على التطوير، من دون أن تذكر اسم المؤسس، وتظهر لوحة في مدخل "متحف الحيوان" الذي تأسس في عام 1911، تفضل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بإنابة وزير الزراعة وقتها، محمد نجيب حشاد، بافتتاح المتحف، ثم لوحة مجاورة، توثق إعادة افتتاح المتحف في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك في عام 1988، ولوحة ثالثة، تظهر أنه "في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، تفضل إبراهيم محلب رئيس الوزراء، بافتتاح المتحف الحيواني" في أغسطس/آب 2015.
التاريخ المسجل يكشف زيف إدعاءات المسؤول الإعلامي لوزارة الزراعة، حول تطوير الحديقة، وتجاهله ذكر المحاولات المستمرة للاستيلاء على أرضها، وأبرزها كانت في ثمانينيات القرن الماضي، حين خصصت الحكومة أرضاً مساحتها 100 فدان في طريق "القاهرة- الفيوم"، لتفريغ المكان الحالي بغرض بناء منطقة سكنية فيه، وهي المحاولة التي استطاعت حملة إعلامية كبيرة قادها الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، أن تجهضها، وتحمي المتنزه النادر.
يصمت الإعلام المصري حالياً عن خطة الحكومة، وجل همه الترويج لمنح الحديقة عبر نظام امتيازات خاصة إلى شركة استثمارية ظهرت فجأة من رحم الهيئة القومية للإنتاج الحربي، تتولي عبر صفقة غير مفهومة تم إسنادها بالأمر المباشر، تدبير التمويل، وتطوير وإدارة وتشغيل الحديقتين "إلى أجل غير مسمى"، وغير محدد التفاصيل.
وأثار التعاقد المفاجئ غضباً بين المواطنين، بينما يسود الهدوء بين عمال الحديقة. يقول أحد العاملين: "لا تلتفت لهذه الترهات، فليست أول مرة يتحدث المسؤولون عن تأجير أو بيع الحديقة، لكن لم يحدث. ماذا يريدون من حديقة أهملوا الإنفاق عليها رغم ما تحققه من دخل لميزانية الدولة. 90 في المائة من العاملين عقودهم مؤقتة منذ 15 عاما، وتتعاقد الإدارة مع شركات أمن ونظافة خاصة للتخلص من مسؤوليتها عن التشغيل".
يضيف الرجل أن "الحديقة لا تحتاج إلا القليل من النفقات لاستيراد فيلة بدلا من التي ماتت، وجلب عدد من الحمير الوحشية والأسود والطيور، وتطوير الحظائر لتسمح بمزيد من حركة الحيوانات".
ويكشف أحد العاملين أن أحد مسؤولي قطاع الإنتاج الذي يدير المواقع التجارية داخل الحديقة اختلف مع شركائه، فاستخدم علاقاته الخاصة بأحد كبار المسؤولين في هيئة الإنتاج، وأقنعهم بالدخول معه كشركاء في مشروع التطوير المطلوب تنفيذه منذ سنوات، والمعطل في مكتب وزير الزراعة بزعم قلة الإمكانات، مضيفاً أن "المناقشات حول المشروع لم تنته بعد، رغم الحملة التي تديرها الوزارة عبر وسائل الإعلام".
يقف مدير تحرير صحيفة الأهرام السابق، كارم يحيى، ليسأل المارة عن "بيت الفيل"، إذ لم يستطع الوصول إلى الموقع. حاولت طمأنته بما ذكره الموظفون حول صعوبة غلق الحديقة في وجه الفقراء، أو تغيير معالمها، فرد قائلا: "لا تصدقهم، فما يحدث من تدمير للتراث الحضاري والمعماري، وتهريب للآثار، وبيع لأصول الدولة خلال الفترة الماضية، خير شاهد على أن قطار التدمير والخصخصة سيدهس الجميع، ولن يفرق بين بشر أو حجر".
يضيف يحيى: "هل تعتقد أن نظاماً يبني سجوناً بالمليارات لإيداع الشباب في الأسر سيكون رحيماً بالحيوانات، ويوفر لها أجواء حرة بدلاً من القضبان الحديدية، أو يدع الفقراء يتمتعون بالجلوس في متنزه زهيد التكلفة. حكومة تعد الأنفاس على الناس، وترغب في تحصيل إتاوات وضرائب من كل فعل، لن تضع ضمانات على عدم رفع أسعار الدخول للطلبة والطبقات المتوسطة والفقيرة التي تبحث عن متنفس".