تصيب الصدمات النفسية النساء بعد الحروب، وتظهر عبر أعراض، منها التفكير الزائد بالحدث بعد انتهائه وكأنّه ما زال قائماً، والحزن والبكاء، والكوابيس المزعجة، إضافة إلى التوتر، وربما فقدان الرغبة في تناول الطعام، لكن لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل تتطور حالات البعض إلى أعراض جسدية كالصداع، والإسهال، والتعب الدائم.
دمرت طائرات الاحتلال خلال العدوان الاسرائيلي الأخير هدفاً بالقرب من منزل نجاة رمضان (43 سنة) في وسط مخيم جباليا، ولم تكن تلك الحادثة الأولى التي واجهتها، إذ نجت من قصف إسرائيلي على مدرسة الفاخورة في يناير/ كانون الثاني 2009، خلال العدوان الأول على قطاع غزة، كما تم ضرب مدرسة لجأت إليها بحثاً عن الأمان مع أطفالها الستة بالقنابل الفسفورية.
تقول رمضان لـ"العربي الجديد": "أصبت بأعراض نفسية عديدة، خصوصاً خلال العدوان الأول على غزة، وفي كل مرة أتذكر إصابة ابني حسام الذي كان عمره 7 سنوات في العدوان الأول، وأتذكر كيف خرجت من المدرسة حافية القدمين أبحث عن حسام، ورأيت قنابل الفسفور الأبيض، ومع كل قصف إسرائيلي أشعر بالارتجاف، فالمطلوب من المرأة أن تتحمل وتصبر وتحفظ الأسرة خلال العدوان وبعد العدوان".
كانت رمضان ترفض العلاج النفسي في البداية نظراً لتخوفاتها من النظرة المجتمعية، لكن تشجعت بعد بضع جلسات كانت تتحدث خلالها مع الاختصاصية النفسية تحصل على جلسات نفسية، والتي شخصت حالتها بأن لديها ندوباً نفسية.
الشيء ذاته جرى مع جليلة (38 سنة)، والتي نجت من العدوان الإسرائيلي في عام 2021. كانت جليلة تقيم في شارع الوحدة الذي تعرض لمجازر إسرائيلية، وأصيبت في الانهيار لأنّها كانت تقف على باب مجمع الشفاء الطبي عندما حضرت جثث الشهداء، ولم تعثر حينها على طفلها تميم (10 سنوات)، والذي كانت تعتقد أنّه من بين الضحايا، وأغمي عليها من الصدمة، لكنها عندما استيقظت وجدته إلى جوارها، لكنها بعد العدوان أصيبت بالقلق الحاد، وباتت تعاني من اضطرابات نفسية.
خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، كانت جليلة تعتقد أنه قد يقترب من الحي الذي تقيم فيه، وتقول لـ"العربي الجديد": "عبرت لزوجي عن حاجتي الشديدة للعلاج النفسي، وكثيرات غيري يعانين كلّ يوم، لكنّهن لا يعرفن أنهن مصابات بأعراض نفسية. أشعر بالقلق الحاد في المساء، وأتعرض للكوابيس كلّ ليلة خلال النوم، وكلما حاولت نسيان أجواء الحرب والمجازر في شارع الوحدة، تمر طائرة، وأسمع أصوات القصف الإسرائيلي، فأفقد شهيتي".
وأشار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" في بيان نهاية الشهر الماضي إلى زيادة الاضطرابات النفسية بين الفلسطينيين في قطاع غزة، خصوصاً بين الأطفال والنساء، وبيّن أنّ الكثيرين بحاجة لخدمات الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي، وأنّ نحو ثلث سكان قطاع غزة بحاجة إلى دعم نفسي واجتماعي.
ويواجه المختصون في العلاج النفسي في غزة النظرة السلبية تجاه عملهم، خصوصاً من السيدات، وبينما لا تتوفر إحصائية رسمية أو شبه رسمية لأعداد المصابين باضطرابات نفسية في القطاع توضح الباحثة الاجتماعية نوال الكيلاني أنّهن يحاولن تحديد الاحتياجات المجتمعية للتدخل العاجل لحل الضغوط النفسية بعد كلّ عدوان إسرائيلي. وتقول الكيلاني: "هناك حاجات نفسية للسيدات في غزة، لكنهن لا يتحدثن عنها، أو يعتبرنها أموراً عادية، وأنّهن قادرات على التحمل، ومن ذلك انقطاع التيار الكهربائي، أو المياه، أو عدم توفر وسائل النظافة الشخصية، خصوصاً اللواتي يعانين مع الدورة الشهرية، وخلال العدوان تزيد أعراضهن النفسية، وبحكم العادات المجتمعية، من المعيب التحدث عن الآلام اثناء الحروب لأنّ هناك أولويات".
عالجت الاختصاصية النفسية نرمين أبو جياب العديد من المتضررات والناجيات من العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة على مدار السنوات الأخيرة، ومن خلال الحالات التي أشرفت عليها لاحظت آثار الندوب النفسية التي تتمثل في عدم الاتزان، والقرارات السلبية، والعدوانية تجاه أنفسهن، وعدم الثقة بالذات، والخوف من الاختلاط، وشيوع الأفكار السلبية.
وتضيف أبو جياب لـ"العربي الجديد": "ظهرت على بعضهن أعراض هلاوس سمعية وبصرية، خصوصاً حين يتذكرن القصف الإسرائيلي". لكنها تعتبر أن الحالات متباينة، فبعض النساء يتجاوزن الأعراض النفسية، ولا تظهر عليهن أيّ أعراض نفسية، وهؤلاء أقل من نصف السيدات اللاتي تشملهن الإحصائيات والمتابعات. وتقول: "الندوب النفسية تظهر بعد التعرض لصدمة نفسية، أياً كانت الأسباب، والغالبية يعانون بعد كل عدوان، خصوصاً لو أدى إلى تدمير جزء من حياتهم، أو إصابة أو فقدان قريب له، كما تظهر أعراض نفسية بعد فترة نتيجة تضارب المشاعر، أو تراكم الأحداث الذي يؤدي إلى شرخ داخلي مؤلم يظهر على السطح كلما ظهر تأثير جديد".