يُعد النقش على النحاس جزءاً من هوية الجزائر، وخصوصاً ولاية قسنطينة. ويكافح الحرفيون للحفاظ على هذه المهنة وتوريثها للأجيال الجديدة، كونها تعكس جزءاً من ثقافة البلاد.
يبدو محمد سليم (62 سنة) شغوفاً بالنقش على النحاس، ويعمل في محله الواقع في شارع رحماني عاشور بولاية قسنطينة شرقي الجزائر، والذي يعرف باسم حي باردو منذ الحقبة الاستعمارية. للحرفة مكانة كبيرة في قلبه، وهو يرى في حديثه لـ "العربي الجديد" أنه من المهم توريثها للأجيال الجديدة من خلال تعليمها في مراكز التكوين المهني والحرفي في الجزائر، حفاظاً عليها وعلى هوية المدن والعراقة.
وعلى الرغم من مرور حوالي خمسين عاماً على تعلمه هذه الحرفة من خلال السي علي فيلالي، لا يزال يمارسها بالشغف عينه وكأنه يومه الأول فيها، مشيراً إلى أنه بات أسيراً لهذه المهنة التي تعطيه بقدر ما يعطيها. صوت مطرقة النقش على النحاس يُسمع في زوايا الحي، ليقبل على محله الزوار والسياح ومحبو التحف. هذه الحرفة أضفت الحيوية إلى المكان. وينقش النحاسون أشكالاً هندسية أو صوراً أو عبارات على النحاس. كما يصنعون أواني الطبخ والأطباق والأباريق وأدوات الزينة التي تمتاز بنقوشها، كأغصان الأشجار والنباتات وغير ذلك.
في هذا الحي أكثر من 60 محلا يملكها حرفيون. كما تنتشر في أحياء أخرى كعوينة الفول والدقسي. إلا أن حي باردو يعد مركز صناعة النحاس ويستقطب الزوار من كل حدب وصوب. ويتحدث الحرفي نورالدين صايفي لـ"العربي الجديد" عن النحاس الأصفر أو الصُفر وهو سبيكة من النحاس والزنك، وعن القِطر وهو النحاس الذائب، مشيراً إلى أن لون النحاس الطبيعي هو الأحمر البرتقالي، ويتميز بمتانته ما يجعله قابلاً للطرق والتشكل كيفما يشاء الحرفي. كما يتميز النحاس بتحمله درجات حرارة عالية، لذلك يمكن استخدامه للطهي.
ويشير إلى أن هناك أنواعاً عدة من النحاس. النحاس الأحمر عبارة عن مزيجٍ من معدن النحاس الخام، بالإضافة إلى مجموعة من المعادن الأخرى كالقصدير والرصاص والزنك. أما النحاس الأصفر فيتكوّن من مزيجٍ من معدن النحاس الخام والزنك بنسب محدّدة. ويطلق على النحاس الأصفر اسم النحاس الذهبي نسبةً إلى لونه، ويكون النحاس الأصفر أكثر صفرة عندما تكون نسبة النحاس فيه عالية مقارنةً بالزنك، ويُصبح شاحباً أو حتى فضياً عند ارتفاع نسبة الزنك فيه.
يضيف صايفي أن صناعة التحف النحاسية تمر بمراحل مختلفة. يبدأ الحرفيون بتحضير صفائح النحاس التي يزخرفونها بواسطة أدوات وتقنيات متعددة منها المطارق والأزاميل والملاقط والدعامات والقوالب بالإضافة إلى أدوات القص والتقطيع، ثم يتم تشكيل التحف أو الأواني وغيرها من خلال تحديد المساحة المراد نقشها وتقطيعها بحسب نموذج لتكون جاهزة للتحضير، وصولاً إلى تلحيمها. ثم توضع في الفرن ليتم صهرها جيداً، وبعدها تبدأ عملية النقش التي تستغرق وقتاً وجهداً وتتطلب إبداعاً.
ويتطلب النقش على النحاس دقة عالية واستخدام أدوات الخدش والرسم. ويحتاج الحرفيون إلى أزاميل من مختلف الأحجام والأشكال لها رؤوس مختلفة مربعة أو مستطيلة أو محدبة أو منحنية يطلق عليها "الضفرة". ومنها ما يشبه حروفاً أو دوائر، ويضرب على رأس الإزميل، بعد وضعه على الصفيحة، بالمطرقة الصغيرة لتتشكل الصفيحة بحسب الشكل المراد نقشه. ويختلف النقش على النحاس عن "الصفارجية" التي تطلق على من يقومون بطلاء المصنوعات النحاسية المستعملة وتلميعها لإعادة بريقها.
وعرف النقش على النحاس ازدهاراً كبيراً خلال فترات زمنية عدة. إلا أن تراجع استخدام الأواني النحاسية للطهي دفع الحرفيين إلى صناعة أدوات الزينة والتحف وغير ذلك. ولا تزال منتجات النحاس تجذب الناس. يشار إلى أنه من عادات مدن الشرق الجزائري أن تشتري العروس أواني مصنوعة من النحاس لأخذها إلى بيت زوجها. وتحظى صواني النحاس وأدوات الزينة باهتمام النساء، وخصوصاً في المناسبات، وتحديداً في مدن ميلة وجيجل وعنابة. كما تجذب الزوار من مدن وبلدان أخرى، ليعودوا إلى بيوتهم وفي حوزتهم أوان مزخرفة كهدايا وذكرى جميلة من المنطقة.
تاريخياً، عرفت الجزائر العديد من الحرف اليدوية، واشتهرت مدن جزائرية عدة بصناعة النحاس منذ العهد الزياني بحسب الباحث في تاريخ الحرف عبد اللاوي بدوي من جامعة الجزائر. ويوضح أن "الزيانيين أنشأوا مصانع لسبك النحاس والمعادن في القرن الـثالث عشر، لتزدهر أكثر خلال فترة الحكم العثماني"، قائلاً إن هذه الحقبة تميزت باهتمام الأتراك بمختلف الحرف وخصوصاً صناعة النحاس. وقدم الموريسكيون من الأندلس وقد اهتموا بتطوير هذه الحرفة. يضيف بدوي في حديثه لـ "العربي الجديد" أن حرفة صناعة النحاس اشتهرت في مدن قسنطينة والقصبة والبليدة وتلمسان وغرداية والمدية والأغواط.
تنتج قسنطينة وحدها أكثر من 60 في المائة من النحاسيات التي تصدر إلى العديد من البلدان، الأمر الذي جعل هذه الحرفة إحدى أهم الحرف في البلاد وتعكس ثقافتها وأصالتها. في الوقت نفسه، بدأت تفقد بريقها. ويدعو بعض الحرفيين في مدينة الصخر العتيق إلى ضرورة الحفاظ على الحرف التي تميز قسنطينة.
وخلال فترة الحكم العثماني، كانت قسنطينة ثاني مركز لصناعة النحاس في الجزائر، واستمرت على هذا النحو خلال فترة الاستعمار الفرنسي، ليواصل الحرفيون إتقان مهنتهم حتى يومنا هذا. وتشير أستاذة الأنثروبولوجيا فريدة مزهود في حديثها لـ "العربي الجديد" إلى أن قسنطينة احتضنت الحرف، الأمر الذي ميزها عن مختلف المدن المجاورة لها، على عكس ما هي عليه اليوم.
تضيف أنه خلال فترة الحكم العثماني، نظمت مهنة صناعة النحاس. وغالباً ما يبدأ الفتية الذين يتعلمون الحرفة بتجهيز ما يحتاجه الصانع، ويشرف على إتقان العمل "المعلّم". وفي الإشراف الإداري، هناك أمين الأمناء يليه الخوجة والصايجي والأمين، ثم المساعدون وهم الشاوش والكاهية والرفقاء الخاصون بالحرفة، مشيرة إلى أن التطور وضعف الاهتمام أثر على تنظيمها وهرمية العمل، ليبقى "المعلّم" فقط أي صاحب الورشة يعاونه "الصنايعي" الذي يتقن الحرفة.