موقع البحث العلمي الشاغر

12 يونيو 2022
ثمّة أهمية كبرى لتطوير مراكز البحث العلمي (فريديريك سولتان/ Getty)
+ الخط -

من المؤكد أن تطوير التعليم يتطلب في المقام الأول التوجه نحو الاهتمام بالتخطيط الاستراتيجي لمواجهة المتغيّرات التي يشهدها العصر، وما تتطلبه من بناء أجيال تتمتّع بالكفاءات اللازمة لمجاراته والتأثير فيه، وإيجاد مكان لنا كشعوب ودول تحت شمسه. أمر لا يمكن أن يتحقق دون تحليل ثغرات وأعطاب الواقع بجرأة، واستشراف المستقبل بما يحمله من تحدّيات تستلزم الاهتمام بالبحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي عبر إنشاء مراكز أبحاث تشمل جميع الاختصاصات دون استثناء.

إن نظرة واحدة إلى واقع البحث العلميّ العربي تكشف لنا عن المستنقع الذي نغرق فيه. وتظهر لنا الفرق الشاسع لجهة الكمية والنوعية بين مستواه العربي والعالمي. هذا الواقع المزري له عوامله وأسبابه التي تجعل المنطقة العربية في أسفل قائمة دول العالم على هذا الصعيد. ويبدو في مقدمة هذه العوامل غياب سياسة وثقافة وممارسة حقوق الإنسان العربي، مع ما يرافقها من قمع للحريات والديمقراطية وانعدام الضمانات الاجتماعية والمهنية. وهي ما تبقينا خارج دائرة التطوّر العلمي والتكنولوجي. ويتطلب ذلك وضع استراتيجية للتطوير من شأنها الاهتمام بمستقبل البحث العلمي، والعمل على النهوض به. ومثل هذا لا يمكن له أن يتحقق دون رفع الميزانيات المرصودة وتشجيع الابتكار والإبداع والنقد، وتقديم الحوافز المادية والمعنوية للباحثين والمخترعين وتقديمهم للرأي العام كنموذج للإنسان العربي، وتأمين الحمايات الشخصية والفكرية لهم ولمنتجاتهم وأبحاثهم والعمل على ترجمتها ونشرها باللغات الأكثر رواجاً. 

ولا شك أن العمل على جذب واستثمار العقول العربية المهاجرة، والحدّ أصلاً من هجرتها، يجب أن يحتل موقعه الرئيسي من الاهتمام الرسمي. فهجرة العقول والكفاءات العلمية إلى الخارج تعدّ من أهمّ المشاكل التي تواجه ميدان البحث العلمي في الوطن العربي. حتى أن دولاً عربية كانت تمتلك موارد بشرية غنية، ونتيجة ظروفها السياسية والأمنية باتت تفتقد الحد الأدنى منها بعد ما تعرضت له من ظروف أمنية ومعيشية قاسية. ثم تأتي أهمية تطوير مراكز البحث العلمي وهيئاته وتوسيع قاعدته لمواجهة التحديات التي تواجه مجتمعاتنا على مختلف الأصعدة. وتوفير ربطها بالمراكز المثيلة في العالم، وتأمين المقدرات المالية لمشاركتها في الندوات والمؤتمرات للاطلاع على الجديد في المجالات المختلفة، وعقد مؤتمرات علمية بين علماء وخبراء الدول العربية، ومناقشة القضايا التي تتطلب البحث والدراسة، وتبادل الخبرات بينهم، والقيام بأبحاث مشتركة، ونقد ما يتوافر من دراسات بهدف إغنائها وتطويرها عبر رفدها بالمزيد من المعطيات والباحثين القادرين على تعزيز مقارباتها، ودعم ظروف العمل وتحسينها، ومكانة العلماء، والباحثين في الوطن العربي، وتقديم الحوافز المادية، والمعنوية من أجل تشجيعهم، وزيادة إنتاجهم البحثي.

إن إنشاء وتطوير دوريات محكّمة، ومنظومة لنشر المعرفة على صعيد الوطن العربي وإيصالها إلى الزملاء في الأقسام المماثلة، ليتسنّى الاطلاع عليها ومناقشتها وإغناؤها مسألة حاسمة. ويبقى الأهم هو العمل على تطبيق ما تتوصّل إليه الأبحاث العلمية من حلول للمشكلات، والتعامل مع هذه الأبحاث على أنّها تهدف إلى وضع أجوبة عن أسئلة الواقع وتحدياته. وأنها تهدف إلى حلّ المشكلات التي تعترض حياة الإنسان العربي، وعدم التعامل معها على أنّها وسيلة للحصول على الدرجات العلمية فقط. إن توفير بيئة بحثيّة غنيّة بمصادر المعرفة يتوجب أن يعتمد على الإمكانيات الذاتية وتعزيز القائم منها، وتأمين وسائل معرفيّة كافية، وتعزيز ارتباط الباحثين ببيئاتهم باعتبارها حقل البحث والمؤسّسة الاجتماعيّة التي يتوجب عليها أن ترعى وتحتضن البحث العلمي وتغنيه.

وختاماً، الكل يعرف أن العديد من أجهزة الدول العربية بدل تسهيل الأبحاث تعمد إلى عرقلتها وتمنع جمع البيانات اللازمة عن بعض الحقول التي تعتبرها من أسرار الدولة كالسجون، والإصلاحيّات، والمؤسسات العامة والأمنية وبعض المراكز التعليمية، والمستشفيات الحكومية، والخاصة، ما يعني قرارات بإخفاء الحقائق وحجبها خشية تسرب فضائح في أدائها.

(باحث وأكاديمي)

المساهمون