موائد "الثواب" لفقراء العراق في رمضان
لا تتراجع العادة العراقية الأصيلة في شهر رمضان، والمتمثلة بالتزام إقامة الموائد الرمضانية المعروفة باسم "الثواب" في مراكز المدن وأمام الجوامع التي تهدف إلى إفطار المصلين واستقبال الفقراء، ودعوتهم إلى تناول الأطباق المقدمة. ورغم المحن والمآسي الأمنية والسياسية والاقتصادية التي مرّت بها البلاد، استمر تنظيم "موائد الرحمن" التي يبدو أن منظميها يحاولون أن يعوضوا للفقراء ما فرقته السياسة والآراء المختلفة والمشاكل الصعبة جداً، في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة، وتدهور قيمة الدينار مقابل الدولار، وارتفاع أسعار المواد الغذائية المستوردة.
وتعتمد الموائد الرمضانية التي يهدى ثوابها إلى أرواح الموتى والشهداء، على تبرعات مالية من ميسوري الحال، ويشارك فيها الأهالي الذين يسكنون قرب الجوامع عبر تقديم أطباق يرسلونها من المنازل.
يقول أيسر الراوي الذي يسكن في حيّ الأعظمية ببغداد لـ"العربي الجديد": "لا تنتهي الموائد الرمضانية المقامة أمام مدخل جامع الإمام أبو حنيفة النعمان، وتخصص للرجال، أما موائد النساء فتقام داخل الجامع. وهذه الموائد مفتوحة لجميع الناس، وتحديداً الفقراء الذين يجدون فيها ما لا يستطيعون توفيره لأنفسهم بسبب المشاكل والأزمات والعوز الاقتصادي، وهي سمة وامتياز عراقي لم ينقطع في أصعب السنوات، حتى تلك التي شهدت اقتتالاً طائفياً وحروباً".
يضيف: "لم يتراجع الاهتمام بهذه الموائد على صعيد الأطباق التي تقدم فيها، وتستمر حتى اليوم الثالث والأخير من عيد الفطر، وهي تعتمد على تبرعات الرز واللحوم المطبوخة واللبن والتمور من الأهالي، كما يتكفل أشخاص بإقامتها أحياناً، وتشكل فرصة ذات فوائد كثيرة، بينها تقوية العلاقات بين الناس والتقرب من الجيران والأصدقاء، فيما يبقى إطعام الفقراء الأهم".
من جهته، يتحدث محمود الحامد الذي يقيم في حي اليرموك وسط بغداد، عن أن "المحن والظروف الصعبة لم تمنع العراقيين من مواصلة الطقوس الخاصة برمضان، بينها مساعدة الفقراء وإقامة الموائد الرمضانية، فهي موروث أصيل لديهم، وتحديداً قرب مداخل الجوامع حيث يقام الإفطار الجماعي بعد صلاة المغرب. وعادة ما ينتظر فقراء نيل نصيبهم من هذه الموائد، وتوزع تبرعات عليهم وسلال غذائية، وأحياناً يتكفل وجهاء المدينة بتنفيذ عملية التوزيع منعاً لإحراج الفقراء".
يتابع: "يتبرع أشخاص ميسورو الحال لإقامة موائد يُخصَّص بعضها لقراءة الفاتحة على روح متوفين أو شهداء. وتتكفل إدارات الجوامع ببعض الموائد الرمضانية، ولا سيما تلك الكبيرة التي تعتمد على تبرعات الناس أو أموال تخصصها الأوقاف لها، والتي قد تتحول أحياناً إلى تبرعات ملابس أو مبالغ مالية أو حتى مساعدات غذائية".
وفي محافظة بابل، يقول الشيخ محمد الغريري لـ"العربي الجديد": "تحقق موائد الرحمن في الشهر الكريم أهدافاً اجتماعية مهمة أيضاً، منها منع الفوارق الطبقية بين الناس، الذي يؤكد أن الدين يساوي بين الناس، علماً أن هذه الموائد تستضيف التجار والأغنياء والعمال والفقراء كي يفطروا معاً بعد يوم طويل ومرهق من الصيام".
يتابع: "توفر هذه الموائد كل شيء للفقراء، وتتقرب منهم، وتساعدهم بالطعام والشراب، وتخلق دوافع معنوية للتذكير بمعاناتهم وعيشها، وتساهم في توفير احتياجات لهم. وهي ليست بالتالي مجرد طقس ديني يرتبط بشهر رمضان، بل ظاهرة اجتماعية مهمة يلتزمها البعض أيضاً في أوقات متفرقة تلي انتهاء الشهر".
وتصف الباحثة في شؤون التراث العراقي ليلى السلامي، في حديثها لـ"العربي الجديد"، الموائد الرمضانية بأنها "فولكلور عراقي ديني لم يتراجع أو يندثر حتى في ظل تأثر العراقيين بالمشاكل الاقتصادية قبل عام 2003 أو بعده". تضيف: "الشعب العراقي عاطفي ويشعر بالآخرين ربما أكثر من غيره من شعوب المنطقة، ويتمسك بعادات الآباء والأجداد وطباعهم، وهو ما يزداد حين يتعلق الفعل بأساس ديني أو عقائدي".
ويقضي العراقيون أيام صيامهم في أشغالهم، إذ لا تتراجع حركة الأسواق إلا قليلاً خلال الشهر الكريم، فيما يتوجهون صباح يوم العيد مع أطفالهم إلى المساجد لأداء الصلاة، ثم إلى "بيت العائلة"، وهو عادة بيت الجدّ، أو الجدّة أو العمّ الأكبر أو الخال الأكبر، حيث يتناولون فطور العيد الذي لا يخلو من "القيمر" و"الكاهي" وهي قشدة مع رقائق بالعسل، إلى جانب المعجنات والألبان. ويتوجه البعض إلى المقابر لقراءة سورة الفاتحة على الموتى والشهداء.