تباطأت أعمال البحث عن الجثث التي خلّفتها كارثة الفيضانات التي شهدتها مدينة درنة الليبية ومحيطها البحري في 10 سبتمبر/ أيلول الماضي في شكل ملحوظ. وأكد ذلك توقف سلطات شرق البلاد عن إعلان حصيلة يومية للجثث المنتشلة، في حين نشر المتحدث الرسمي باسم قيادة مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، أحمد المسماري، على صفحته الرسمية على "فيسبوك"، قبل أيام آخر إحصاء لضحايا السيول والفيضانات، وهو 4209.
أيضاً، توقف وزير الصحة في حكومة مجلس النواب، عثمان عبد الجليل، عن عقد مؤتمراته الصحافية اليومية للحديث عن تفاصيل عمليات انتشال الجثث. وبعد انقطاع أيام ظهر عبد الجليل في مؤتمر صحافي نهاية سبتمبر الماضي، وتحدث عن نتائج تقييم الوضع الصحي والبيئي والوبائي في المدينة، مؤكداً عدم وجود مؤشرات إلى تفشي عدوى أو وباء. وأشار إلى أن الوضع الصحي تحت السيطرة، وجدد التحذير من استعمال المياه في المنطقة المنكوبة بعدما كشفت تحاليل أجرتها الوزارة لمياه الآبار الجوفية وجود تلوّث بجرثومة "إي كولاي" في نسبة 43 منها.
وفي 10 سبتمبر الماضي، وصل الإعصار "دانيال" إلى الجبل الأخضر شرق ليبيا، وتسبب في فيضانات غير مسبوقة في المنطقة، وفي انهيار سدي "أبو منصور" و"البلاد" بوادي درنة، فاجتاحت المياه المحجوزة خلف السدين كل مدينة درنة التي اختفى ثلثها تماماً عن الخريطة.
وفي ظل الكمّ الهائل من الدمار والبيوت من السيول التي جرفت السكان إلى البحر أو دفنتهم تحت الطمي، اختلفت التكهنات حول عدد الضحايا. وأعلنت الأمم المتحدة قبل نحو أسبوعين أن عدد الضحايا يناهز 11.300، قبل أن توضح وزارة الصحة في شرق البلاد أن هذا الرقم يعود إلى أشخاص جرى التحقق من شخصياتهم قبل دفنهم.
لكن ريمة الجازوي، وهي من سكان درنة الذين تضرروا بالفيضانات، تقول إن "هذا الرقم لا يتوافق مع الواقع"، علماً أن حنان صالح، مساعدة مدير منظمة "هيومن رايتس ووتش"، كتبت على منصة "إكس" أن "أكثر من 12.500 شخص لقوا حتفهم أو فقدوا في درنة".
من جهته، يستبعد الغطاس وخبير الإنقاذ الليبي الذي يشارك في عمليات الإنقاذ البحري بدرنة، مراد بن يونس، إمكان العثور على كل المفقودين الذين جرفتهم سيول الفيضانات إلى البحر. ويقول لـ"العربي الجديد": "اقتلعت السيول قواعد المباني العالية، وقطعّت أوصال جثث الضحايا بسبب الانهيارات التي حصلت، فالركام الذي حملته شكل قوة تدميرية ألحقت أضراراً بخرسانات صلبة وقوية، فكيف الحال بالنسبة إلى البشر؟".
ويرى بن يونس أن "اضطراب البحر واندفاع السيارات الثقيلة بقوة كبيرة دفعا الجثث إلى أماكن بعيدة، خاصة باتجاه شرقي سرت. وما يزيد تعقيد مسألة العثور على جثث حالياً الطبيعة الصخرية لغالبية شواطئ المنطقة كونها محاذية لسفوح الجبل الأخضر، وانتشار عدد كبيرة من الخلجان الوعرة والكهوف".
وضمن الأسباب الأخرى التي قد تعرقل فرص العثور على مفقودين في البحر، يشير بن يونس إلى مسألة انقضاء نحو شهر على الحادث، وأيضاً عودة غالبية فرق الإنقاذ الدولية والمحلية القادمة من غربي البلاد.
وهنا تطرح أسئلة نفسها في شأن أسباب عدم الإعلان رسمياً عن عدد المفقودين، ولو في شكل تقريبي، بحسب ما يقول الناشط الحقوقي أيوب القاضي لـ"العربي الجديد"، والذي يرجح وجود عدد ضحايا أكبر مما أعلنته سلطات شرقي البلاد، و"لذلك أسباب عدة، منها أن اليومين الأولين للكارثة شهدا دفن نحو 2000 جثة لم تحدد هويات غالبيتها، خاصة تلك التي دفنت في مقابر منطقة مرتوبة".
ويتطرق القاضي أيضاً إلى مسألة "استحالة التعرف على الجثث التي انتشلت أخيراً بسبب ضياع الملامح، ما يترك المسألة رهن التحاليل الوراثية التي ستستغرق وقتاً طويلاً".
ويؤكد مدير مكتب الإعلام بالهيئة العامة للبحث والتعرف إلى المفقودين، عبد العزيز الجعفري، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "فرق الهيئة تستمر في أخذ عينات الحمض النووي (دي إن إي) من الجثث المنتشلة وأقارب المفقودين من أجل إجراء اختبارات التطابق الجيني، كما تواصل أعمال البحث وانتشال الجثث التي تتركز في البحر حالياً"، لكنه أرجأ كشف الأرقام.
وفي السياق، يشرف النائب العام، الصديق الصور، على تقييم نتائج عينات البصمة الوراثية لتحديد هويات الضحايا. وهو التقى لهذه الغاية رئيس الهيئة العامة للبحث والتعرف إلى المفقودين، وقادة فرق الطب الشرعي والمباحث الجنائية المكلفين مهمة معاملة عينات البصمة الوراثية.
وقال المكتب الإعلامي لمكتب النائب العام إن "اللقاء استعرض الأعمال المنجزة والمعوقات القائمة واقتراحات المعالجة".
وطالب الصديق تنسيق العمل وإنجازه في وقت يتلاءم مع طبيعة التحقيقات الجارية في شأن الفيضانات.
من جهة أخرى، ينصب اهتمام الحكومة المكلفة من مجلس النواب على مسألة تعويضات المتضررين، وإعادة الإعمار، فيما يُتابع المركز الوطني لمكافحة الأمراض مسألة الصحة النفسية لأهالي درنة، وإمكان تجاوزهم الكارثة.
وبالعودة إلى الجازوي فهي تشيد بالجهود المبذولة، لكنها ترى أن غالبية الضغوط النفسية التي يتعرض لها سكان درنة سببها عدم إيجاد جثث ذويهم حتى الآن، ونبهت إلى أن العلاج يجب أن يبدأ من هذه النقطة.
ويعلّق القاضي بالقول: "لا شك في أن وراء إخفاء الأرقام الحقيقية لعدد الضحايا مخاوف لدى السلطات من تنامي الغضب الشعبي وعودة التظاهرات والاحتجاجات، لكن هذه الطريقة غير صحيحة، وسينفجر الوضع عاجلاً أم آجلاً لأن السلطات حتى إذا استطاعت النجاة بنفسها من تهم التقصير في صيانة المنشآت والسدود، لكن إخفاءها الأرقام الحقيقة يضعها في دائرة المسؤولية".