منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي في حربه المركّزة على قطاع غزة، وسط عملية "طوفان الأقصى"، تتعمّد قواته استهداف الطواقم الصحية والإسعاف في ما يُعَدّ انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني، وهو ما أقرّت به الأمم المتحدة وجهات أخرى.
كادت مهمّة خالد عيسى تلك أن تكون الأخيرة، أوّل من أمس. فسائق سيارة الإسعاف الفلسطيني نجا من الموت، في بلدة جباليا شمالي قطاع غزة. هو كان في طريق العودة من مهمّته، وقد تمكّن مع زملاء مسعفين صحيين وآخرين من الدفاع المدني من إنقاذ ستّة غزيين أُصيبوا بالقصف الإسرائيلي، عندما سقطت قذيقة إسرائيلية أمام سيارة الإسعاف التي يقودها وتُطاول أخرى السيارة الثانية التي تقلّ المصابين.
خالد سلمان واحد من المسعفين الذين كانوا يرافقون عيسى. هو وثّق ذلك الانتهاك الإسرائيلي من خلال تسجيله عبر هاتفه المحمول. وقبل ذلك بلحظات، هاتف سلمان طفلته التي كانت تبكي خوفاً من الصواريخ، وحاول تهدئتها بالقول لها إنّه سوف يعود إلى البيت مساءً ويحضر لها الحلوى معه. عندما قطع لصغيره وعده هذا، لم يكن سلمان يعلم أنّه سوف ينجو من موت محقّق.
وتُعَدّ حالة الطوارئ الحالية، التي أعلنتها وزارة الصحة الفلسطينية في غزة يوم السبت الماضي، الأدقّ بالنسبة إلى الطواقم الصحية والطبية، لأنّها أتت بعد أزمات صحية متكرّرة، وسط تشديد الاحتلال الإسرائيلي الحصار على قطاع غزة وحالات المنع الأمني الذي فُرض على المرضى المضطرين لتلقّي العلاج خارجه هذا العام.
وإلى جانب المخاطر التي تتهدّدهم من جرّاء الحرب الإسرائيلية، يواجه أفراد تلك الطواقم أزمات نفسية واجتماعية، لا سيّما أنّ عائلاتهم كذلك في خطر. ويقول سلمان إنّهم يصارعون لإنجاز مهامهم وسط الظروف الصعبة جداً اليوم، في حين أنّ قلوبهم مع عائلاتهم.
ويشير سلمان لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "طائرات الاستطلاع الإسرائيلية تلاحق سيارات الإسعاف في قطاع غزة، ويتّضح ذلك لنا عندما يعلو هديرها في السماء ويصير مزعجاً". يضيف أنّ "ثمّة طائرات استطلاع إسرائيلية استهدفت جرحى كانوا مع طواقم الإسعاف في جباليا ومنطقة العطاطرة اللتَين تعرّضتا لاستهداف مباشر في الأيام الماضية".
نجاة من النار الإسرائيلية
عبد الله المجدلاوي واحد من أفراد طواقم الدفاع المدني الناجين من استهداف آلة الحرب الإسرائيلية. وهو كان قد تعرّض مع زملاء له في مركز الدفاع المدني في حيّ تلّ الهوا جنوبي مدينة غزة، مساء الاثنين الماضي، لاستهداف مباشر من طائرات الاحتلال الإسرائيلي التي أغارت على عدد من الأهداف في الحيّ. هم لبّوا نداء استغاثة سكان المنطقة التي تعرّضت لسلسلة غارات متواصلة، لكنّ القصف باغتهم فيما كانوا يُخرجون أشخاصاً عالقين في طبقة أرضية بأحد المباني السكنية، فأُصيب اثنان من زملائه واستطاع هو النجاة مع ثلاثة مسعفين آخرين بينما دُمّرت آلياتهم.
يقول المجدلاوي لـ"العربي الجديد" إنّ "ثمّة تنسيقاً بيننا وبين اللجنة الدولية للصليب الأحمر، خلال الحروب الإسرائيلية في العادة، وذلك من أجل ضمان أقلّ الخسائر، البشرية والمادية. لكنّ الأمر مختلف في العدوان الحالي، إذ لا يمكننا انتظار التنسيق، فالتصريح يصل متأخّراً في بعض الأحيان ونحن لا نستطيع الوقوف مكتوفي الأيدي أمام كثرة الأماكن المستهدفة. لذا ننطلق ونعاين المكان وكيفية الدخول والخروج بطريقة آمنة".
وبدوره، يتحدّث المجدلاوي عن "المأساة اليومية" ما بين العمل في ظلّ الخطر والقلق على العائلة. ويشير إلى أنّهم يتحرّكون مع كلّ عملية قصف فيما "أرواحنا على كفوفنا"، مضيفاً أنّ "بيوتنا كذلك مستهدفة" مثل كلّ البيوت. ولا يخفي أنّه يتّصل بعائلته بين كلّ مهمّة وأخرى، لافتاً إلى أنّ أحداً لا يعلم إذا كان سوف ينجو أم لا.
وتتعدّد التحديات التي تواجه طواقم الدفاع المدني في غزة، فقد تتعرّض منطقة مستهدفة لأكثر من عمليّة قصف، الأمر الذي يهدّد سلامتها في حال كانت تنفّذ مهامها فيها. كذلك فإنّ عدد العمليات الكبير يستوجب تدخّل طواقم عديدة، وذلك في ظلّ النقص الحاد في آليات الدفاع المدني بسبب الحصار الإسرائيلي.
يُذكر أنّ جهاز الدفاع المدني عانى كثيراً في الأعوام الماضية في تنفيذ مهام عديدة، ليس فقط خلال العمليات الإسرائيلية العسكرية المتكررة إنّما كذلك خلال أزمات أخرى طبيعية وغيرها، من قبيل غرق منازل بالمياه. فمعدّات الجهاز متهالكة، وكثيراً ما تعطّلت مركبات لهم خلال تنفيذ المهام. وهذا ما حصل في الحرب القائمة حالياً.
وقد نشرت المديرية العامة للدفاع المدني في غزة، مساء الثلاثاء الماضي، تصريحاً تفيد فيه بأنّ طواقمها عاجزة عن التعامل مع الكمّ الهائل من البيوت المدمّرة، وهي لا تملك ما يكفي من آليات ومعدّات ثقيلة لإخراج العالقين من تحت الأنقاض، الأمر الذي ينذر بارتفاع عدد الضحايا بصورة كبيرة.
وبيّن رئيس الدفاع المدني في القطاع اللواء زهير شاهين أنّ الاحتلال الإسرائيلي يمنع، منذ عام 2007، دخول معدّات رئيسية مثل مركبات إطفاء وصهاريج مياه وأجهزة أوكسيجين وأجهزة لعمليات الرصد تحت الأنقاض وفرش هوائية وقطع غيار للدفاع المدني. وشرح أنّ الاحتلال يمنعها بذريعة احتمال "استخدامها المزدوج"، أي في غير محلّها، لكنّه شدّد على أنّ القرار سياسي وهو كان سبباً في ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين.
أوضح شاهين أنّه منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في العام 2008، دمّر الجيش الإسرائيلي 12 مركزاً للدفاع المدني في مختلف محافظات القطاع، أُعيد بناء عدد منها مرّات عدّة إنّما من دون تجديد معدّاتها. كذلك استشهد 12 ضابط إنقاذ، لكنّ المأساة الكبرى بحسب شاهين هي أنّ جهاز الدفاع المدني ما زال يعتمد على معدّات قديمة ومهترئة، من بينها ما صُنّع عام 1994.
الاحتلال يستهدف عشرات عمليات الإسعاف
وذكرت بيانات أخيرة لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة أنّ نحو 50 مهمّة إسعاف تعرّضت لاستهداف من قبل طائرات حربية إسرائيلية. ووسط استمرار الانتهاكات الإسرائيلية المباشرة في حقّ الطواقم الطبية، استشهد 9 من الكوادر الصحية (حتى كتابة هذا التقرير) فيما أُصيب 15 آخرين بجروح مختلفة.
وفي واحدة من آخر العمليات، اليوم الأربعاء، استشهد 4 أفراد من طواقم جهاز الإسعاف والطوارئ في خلال تأدية واجبهم في منطقة أبراج الندى أقصى شمالي قطاع غزة، بعد استهداف مركبة الإسعاف خاصتهم بطريقة مباشرة. وقد سبقها استهداف 4 سيارات إسعاف في منطقة عبسان شرقي مدينة خان يونس جنوبي القطاع، الأمر الذي أسفر عن إصابة 5 مسعفين من الهلال الأحمر الفلسطيني.
ويقول المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة أشرف القدرة لـ"العربي الجديد" إنّ الاحتلال استهدف نحو 10 منشآت طبية، من بينها مبنى وزارة الصحة وعيادة الرمال، ودمّر المركز الدولي للعيون بالإضافة إلى أكثر من 15 مركبة إسعاف، عدد منها تابع لمؤسسات أهلية كانت تشارك وزارة الصحة في مهامها لإنقاذ أرواح المواطنين. ويشدّد على أنّ "الطواقم الصحية والطبية تعمل وسط المخاطر"، مشيراً إلى أنّ ثمّة "عاملين صحيين يتلقّون أخبار استشهاد وإصابة أفراد من عائلاتهم لكنّهم يكملون عملهم".
وفي السياق نفسه، يؤكد القدرة أنّ مستشفى مدينة بيت حانون، شمالي قطاع غزة، توقّف عن العمل، نتيجة أضرار جسيمة في مرافقه نتيجة الاستهداف المتكرّر له، بالإضافة إلى عدم قدرة الطواقم الصحية والطبية على الوصول إليه بسبب كثافة القصف. ويلفت كذلك إلى تعرّض مركز حيدر عبد الشافي الصحي في مدينة غزة لأضرار كبيرة، نتيجة القصف المستمر لمحيطه، الأمر الذي عطّل تقديم الخدمات.
انتهاك القانون الدولي
في سياق متصل، يصف رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد" صلاح عبد العاطي ما يجري بأنّه "حرب إبادة". ويشرح الناشط الحقوقي لـ"العربي الجديد" أنّ "القوانين الدولية تعدّ ما يحصل من انتهاكات مباشرة وُثّقت بالكامل واستهداف للطواقم الصحية والإسعاف تجاوزاً لأحكام القانون الدولي الإنساني". ويشدّد على أن الأمر يتطلّب "فتح ممرّ إنساني لتزويد القطاع الطبي بما يلزم ولتأمين الحالات الإنسانية في وقت الحروب، على سبيل المثال فتح خطّ إلى مصر لنقل المصابين من أجل توفير العلاج لهم".
ويشير عبد العاطي إلى أنّ "تحقيقات عدّة جرت مع طواقم صحية، بعد انتهاكات إسرائيلية خلال حروب، أبرزها الانتهاكات التي تعرّضت لها طواقم صحية خلال مسيرات العودة، خصوصاً مع استشهاد المسعفة رزان النجار عام 2018، لكنّ تلك التحقيقات لم تخرج بأيّ نتيجة ولم تُتابَع ولم تصدر أحكام فيها، لا سيّما أنّ التعامل معها يأتي كتحقيق مفتوح".
ويتحدّث عبد العاطي عن "قضايا رُفعت سابقاً، من خلال استخدام مبدأ الولاية القضائية الدولية، لكنّ إسرائيل تهرّبت منها فيما تراجعت عنها دول أوروبية معنيّة. وللأسف تمّ التراجع عن ملاحقة الاحتلال الإسرائيلي، وأُلغيت القوانين التي تجيز مبدأ الولاية القضائية التي تحاكم إسرائيل". ويشدّد على "الانتقائية في إنفاذ القانون الدولي والتسويف والمماطلة من قبل المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان".
ويرى عبد العاطي أنّ "ما ينقصنا كفلسطينيين هو إرادة سياسية فلسطينية من أجل تفعيل مبدأ الولاية القضائية في القضاء الوطني الفلسطيني، وضمان التحرّك أمام المحكمة الجنائية الدولية من أجل مساءلة مجرمي الحرب من الاحتلال الإسرائيلي، وضمان توفير الحماية الدولية للفلسطينيين، والتحرّك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بصيغة متّحدون من أجل السلام".