مجزرة تل الهوى... جرائم وحشية كشفها الانسحاب الإسرائيلي

16 يوليو 2024
دمار هائل خلّفه اجتياح الاحتلال حي تل الهوى (محمود عيسى/الأناضول)
+ الخط -

تعمد جيش الاحتلال الإسرائيلي تدمير عدد كبير من مباني حي تل الهوى قبل انسحابه من الحي الواقع غربي مدينة غزة، وتدمير الشارع الرئيسي المؤدي إلى الشارعين 8 و10 اللذين يربطان مدينة غزة بالمحافظات الوسطى والجنوبية، وشارع البحر وصولاً إلى شارع صلاح الدين، وكذلك شارع الصناعة المؤدي إلى المقر الرئيسي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا". وقال مفوض الوكالة، فيليب لازاريني، إن "مقر الوكالة تحول إلى ساحة معركة".
عثر الأهالي على أكثر من 60 من جثامين الشهداء في المنطقة الممتدة من حي الرمال إلى حي تل الهوى، وأكد عدد من العائلات إعدام جنود الاحتلال العشرات من الأفراد، بعضهم أمام أعين أفراد أسرهم، فضلاً عن تعذيب آخرين، من بينهم مسنون وأطفال، واقتحام المنازل، ومنع وصول الطعام والشراب إليهم. 

عزل جيش الاحتلال سكان تل الهوى لأيام عن بقية مناطق قطاع غزة

وعاش سكان الحي قرابة ستة أيام من الرعب المتواصل، لم يستطيعوا النوم خلالها من شدة القصف، وتكرار توغل آليات وجنود الاحتلال داخل المنطقة، واقتحامهم المنازل، وأعدم الاحتلال أفراداً من عائلة زيدية وعائلة اللولو من دون أي تبرير. 
وعزل جيش الاحتلال سكان المنطقة خلال أيام الحصار الذي سبق الانسحاب عن بقية القطاع، ولم تكن تتوفر لهم أية رعاية طبية، ومنعوا من التوجه إلى المراكز الصحية القريبة، كما منعت سيارات الإسعاف من الوصول إلى المنطقة، وكذلك عناصر ومركبات الدفاع المدني، وتكررت نداءات الاستغاثة من عائلات المنطقة، ومن بينها عائلات الشرفا، وزيدية، ودغمش، والتي فقدت العديد من الشهداء. 
كان عدد من أفراد عائلة الشرفا يرفضون ترك منطقتهم والنزوح جنوباً، خصوصاً أنه لا يوجد مكان آمن في القطاع، ولا تتوفر أماكن للإيواء، كما أن العائلة تضم مسنين وأطفالاً، ما دفعهم إلى البقاء في منازلهم المدمرة جزئياً.
ويؤكد الخمسيني محمد الشرفا أنه تعرض للتعذيب على أيدي جنود الاحتلال، والذين فجروا منزله الذي كان يؤوي عائلته وعدداً من أقاربه النازحين من مناطق مختلفة من مدينة غزة، ويقول إنه عاش أياماً من ترقب الاستشهاد قصفاً، أو الإعدام ميدانياً، أو الاعتقال، وإنهم قبل تفجير المنزل قرروا تنظيم أنفسهم داخله حتى لا يتعرض الجميع للخطر، فكان بعض رجال العائلة يبقون مع بعض الأطفال والنساء في غرفة، والبقية في مكان آخر، ويتبادلون النوم تحسباً لأي اقتحام للمنزل.

الصورة
تركت جثامين شهداء تل الهوى في الشوارع لأيام (داود أبو الكاس/الأناضول)
ظلت جثامين شهداء تل الهوى في الشوارع لأيام (داود أبو الكاس/الأناضول)

يضيف لـ"العربي الجديد": "فزع الجميع مع سماع أصوات انفجارات أمام باب المنزل، وكان جنود الاحتلال يفجرون الباب، ودخل الكثير منهم، وطلبوا منا رفع أيدينا للأعلى، ثم بدأ إخراج الرجال، وفصل النساء والأطفال، وسط بكاء الأطفال الذين كانوا ينادون آباءهم، وقد اعتقلوني مع قرابة تسعة رجال، وعصبوا أعيننا، وكانت أيدينا مقيدة، وكانوا يضربوننا بالبنادق والأحذية، وعندما نسقط يجبروننا على النهوض مجدداً، ويكررون الضرب. سمعنا لاحقاً أصوات عدد من الجيران، ثم سمعنا صوت إطلاق نار، وعرفنا في وقت لاحق استشهاد خمسة منهم، ثم أجبرونا على الجلوس في مكان لا نعرفه، وبدأ التحقيق معنا، وتخلل ذلك ضرب متكرر وشتائم، لكنهم أفرجوا عنا بعد ذلك".
يتابع الشرفا: "اعتقل الجنود أعداداً كبيرة من سكان المنطقة، وبعضهم لا نعرف عنهم شيئاً، والتهمة الرائجة هي مساعدة المقاومة الفلسطينية، أو إيواء أفرادها في المنازل. اتهمنا أحد المحققين أيضاً بتجاهل تنفيذ قرارات الإخلاء رغم أنهم خصصوا منطقة إنسانية لنغادر إليها، وعندما رد أحد المعتقلين قائلاً إنهم يقصفون تلك المناطق التي يسمونها إنسانية، قاموا بضربه، واقتياده بعيداً عنا، ولا نعرف مصيره حتى الآن. عندما فُكت قيودي، أعادوني إلى الشارع، وتابعت المشي باتجاه المنزل، وكانت هناك الكثير من جثامين الشهداء في الشوارع، وطلب جنود الاحتلال مني متابعة السير من دون الالتفات إلى الجثامين. كنت أتمعن في الجثامين كي أتعرف إلى أصحابها، وشعرت بالصدمة لأن من بينهم أصدقاء وجيراناً، وأحد الشبان الذين كانوا يعملون في محلاتنا التجارية".
ويوضح: "بعد الإفراج عني، عشنا أياماً صعبة لا يمكن نسيان تفاصيلها. حاولنا كثيراً التواصل مع الصليب الأحمر أو الإسعاف، أو أي أحد من الخارج، ولم يُستجب لأي نداء استغاثة، فالمنطقة كانت خاضعة لحصار مشدد، ومنعت كل المركبات من الوصول إليها".
واتضح حجم المأساة بعد انسحاب قوات الاحتلال من المنطقة، فالحي الذي كان يعدّ أحد أرقى أحياء قطاع غزة، والذي يضم العديد من الأشجار، ومباني حكومية، ومدارس وجامعات، تحول إلى مكان مقفر مدمّر، وبلغت نسبة الدمار في المنطقة نحو 80% من المباني، كما دمر جيش الاحتلال مقر جامعة الأقصى، والتي كانت تستضيف المئات من النازحين. 

الصورة
جثمان شهيد قتله الاحتلال في تل الهوى (داود أبو الكاس/الأناضول)
جثمان شهيد قتله الاحتلال في تل الهوى (داود أبو الكاس/الأناضول)

وحاول جيش الاحتلال على مدار أشهر العدوان إفراغ المناطق الشرقية من مدينة غزة، وحشر السكان في مناطق غرب المدينة التي تضم حي تل الهوى وحي الرمال، وكان الحيّان قبل الاجتياح الإسرائيلي الأخير مكتظين بالنازحين الذين كانوا في عدد من المدارس القريبة من حديقة برشلونة، وفي شارع الصناعة.
عادت أسرة عرفة زيدان إلى حي تل الهوى، بعد أن دمّر الاحتلال المنزل الذي نزحوا إليه طوال أكثر من خمسة أشهر في حي الرمال، واضطر إلى البقاء في منزل شقيقه الذي كان يضم ما لا يقل عن 60 فرداً، وقد استشهد اثنان من أصدقائه الذين غدر بهم الاحتلال حين حاولا الخروج من المنزل بعد أن هدأت أصوات القصف، معتقدين أن الجنود انسحبوا من المنطقة، وقد ظل جثماناهما في الشارع لأيام، وجرى انتشالهما بعد انسحاب جيش الاحتلال.
يقول زيدان لـ"العربي الجديد": "تعمد الاحتلال ارتكاب مجزرة في تل الهوى، وذلك بعد أن ألقى مناشير يطلب فيها من سكان حي الدرج وحي التفاح الإخلاء، ما دفع الكثير من العائلات للنزوح إلى حي تل الهوى، وخصوصاً شارع الصناعة الذي يضم عدداً من المدارس، كما أنه قريب من المستشفى الأردني الذي كان يقدّم خدماته المحدودة للجرحى، وعجز تماماً عن العمل أثناء الاجتياح العسكري للمنطقة". 
يضيف: "كنت من المحظوظين الذين لم يُعتقلوا، فقد كنت داخل غرفة صغيرة في أحد المنازل، كانت عبارة عن مخزن للمواد التموينية، وكان أطفالي نائمين حينها، وكانت تفصلنا بضعة أمتار عن جنود الاحتلال، ولم يشاهدونا، وبعد الانسحاب وجدت من بين الشهداء رجلاً مسناً جرى إعدامه، وهو من ساعدني على إيجاد هذا المسكن الذي حماني من المجزرة". 
يتابع: "كانت القذائف تتناثر في كل مكان، وطائرات الكواد كابتر تقتل الناس في الشارع، وكنت أطل من شباك صغير على الشارع، ومن حسن الحظ أن الغرفة لم تتأثر بالقذائف، وكان أطفالي الثلاثة يبكون ويصرخون مع كل قصف، ولا أستطيع السيطرة عليهم. أعدم الاحتلال كثيرين، بعضهم كانوا في الشوارع يحاولون الحصول على بعض الخبز، وقضيت مع أطفالي ثلاثة أيام من دون طعام أو شراب، وبعدها نزحنا إلى حي النصر". 

وسيطر جنود الاحتلال على محيط مباني وزارة المالية، وعلى أبراج السعادة، وقاموا باعتقال العديد من المواطنين، والتحقيق معهم، وأجبروا العديد من النساء على النزوح جنوباً. نزحت هدى توفيق إلى جنوبي القطاع رفقة اثنين من أبنائها بعد اعتقال زوجها الذي ضُرب أمام أطفاله بلا رحمة، وعندما وصلت إلى الجنوب لم تجد مكاناً للإيواء، ولا حتى خيمة لتجلس فيها. 
تقول توفيق لـ"العربي الجديد": "أعدم الجنود رجالاً ونساء ومسنين في الشارع، وشاهدنا إعدام مسنين من عائلة زيدية، ثم حددوا لنا خريطة للنزوح، والشوارع التي يمكن أن نمشي فيها، واعتقلوا رجالاً من النازحين معنا عندما وصلنا إلى حاجز نيتساريم على حدود وادي غزة، وما زلت لا أعرف مصير أشقائي الأربعة، ولا مصير زوجي المعتقل، والذي عشت صدمة كبيرة وأنا أشاهده يتعرض للضرب أمامي".