يدخل الغزيون مرحلة جديدة من اشتداد الجوع في ظل عدم وصول المساعدات إلى عدد من المناطق، خصوصاً المناطق المحاصرة في شمالي القطاع، وكذلك تقلص كميات المساعدات التي تدخل من معبر رفح.
تشتد مخاطر عدم توفر الطعام في أنحاء قطاع غزة مع تواصل العدوان الإسرائيلي، وتشديد الحصار ومنع دخول المساعدات، والأوضاع أكثر خطورة بالنسبة لندرة حليب الأطفال، ليعتمد آلاف الرضع على غذاء لا يناسبهم، أو لا يساعدهم على النمو السليم، ويجعلهم عرضة للكثير من الأمراض.
وأمام جوع أطفالهم المتزايد، يعجز الأهالي عن تأمين احتياجاتهم البسيطة حتى على صعيد المياه، ويلجأون إلى استخدام مياه لا تصلح للشرب، حتى أن الأطفال باتوا يميزون مذاقها السيئ، ويقارنونه بما كانوا يشربونه قبل العدوان، وبعد أن كان بعض الآباء يستطيعون شراء علب حليب الأطفال، أو حتى "الحليب البودرة"، أصبحوا عاجزين عن تأمينه لنفاده من أنحاء القطاع مع كثير من الاحتياجات الأساسية، وعلى رأسها الطحين اللازم لإعداد الخبز.
في أول شهرين من العدوان الإسرائيلي، شهد قطاع غزة نقصاً كبيراً في أطعمة الأطفال، وخصوصاً أصناف الحليب اللازمة للرُضع الذين يعانون من مشكلات غذائية، والمدعمات الغذائية اللازمة للأطفال الصغار التي تتيح لهم مكافحة سوء التغذية، فضلاً عن ندرة الخضروات والفواكه، وبمرور الوقت بات كل شيء تقريباً غير متوفر في القطاع المحاصر الذي تتعرض جميع مناطقه للقصف، ويتكرر اجتياح عدد منها، وحالياً لا وجود لحليب الأطفال في المنطقة الشمالية من غزة، وهو شحيح للغاية في المنطقتين الجنوبية والوسطى.
حليب الأطفال والمدعمات الغذائية نفدت تماماً في أنحاء غزة
واضطرت العائلات إلى اللجوء إلى بعض البدائل لحليب الأطفال في ظل الأزمة القائمة، إذ يقوم البعض بطحن القمح مع الأرز والسكر لإطعام الرضع. من بين هؤلاء عطية أبو سمرة (35 سنة)، وهو من سكان شمالي قطاع غزة، حيث اختفى حليب الأطفال منذ نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، فقرر استبداله بهذا الخليط، لكنه يعاني منذ بداية الشهر الحالي بعد أن نفد الأرز تماماً.
لدى أبو سمرة 3 أطفال، يبلغ عمر أصغرهم سنة ونصف السنة، وتعاني زوجته من مشكلات صحية تجعلها غير قادرة على إرضاعه. يقول لـ"العربي الجديد": "في الفترة الأخيرة أصبحنا غير قادرين عن تأمين أي شيء لإطعام الأطفال، وحاليا ما يتوفر هو بعض الخبز الذي يتم إنتاجه من خليط من الدقيق والأعلاف وأوراق بعض الخضروات والأشجار، وعادة أنتظر حتى ينتهي أطفالي من تناول ما يتوفر من طعام، ثم أتناول ما تبقى منهم".
يضيف أن "المكملات الغذائية مفقودة منذ فترة، ولا نملك حتى المياه والسكر للأطفال. في السابق كنت أقوم بسلق الخضروات، ثم هرسها لتكون سهلة الهضم بالنسبة لأطفالي، وكانوا في البداية يتقبلون ذلك على مضض، وبعد فترة أصبحوا يقبلون على أكلها من شدة الجوع، وتوقفوا عن التأفف لأنها أفضل من لا شيء، لكني منذ أيام أحاول توفير بعض الخضروات والتوابل لعمل شوربة يأكلها الأطفال فلا أجد". يتابع: "أنا خريج تمريض، وإن كنت أعمل في غير تخصصي، لكني أعلم تماماً أن إطعام أطفالي بهذه الطريقة سيضر أجسادهم، لكني عاجز عن توفير أي شيء، وطفلي الصغير تحديداً لم يرضع منذ شهرين، لأن والدته تعاني من ضعف عام، وجسدها عاجز عن إنتاج الحليب، كما أنني عاجز عن توفير القوت لهم، وقد وجدنا بعض التوابل في مخازن مدمرة، ونضعها مع أي شيء نعده للأكل".
بدوره، يضع إيهاب أبو كرش (30 سنة) ما يتوفر من طعام أمام أطفاله، وأعمارهم 8 سنوات، و3 سنوات، والأصغر رضيع عمره 8 شهور، ويقول لهم إنه لا يوجد غيره. يقول: "في البداية كانوا لا يتقبلون هذا الطعام، ويطالبون بالأطعمة التي اعتادوا عليها، لكن بعد أيام قليلة من الجوع أصبحوا يأكلون ما أضعه أمامهم، وفي معظم الأيام أخلط صلصة وجدتها في السوق مع الأرز، وفي مرات أخرى أصنع الأرز مع البهارات، لكني لا أستطيع تأمين الحليب، وأطفالي الثلاثة لم يتذوقوه منذ أشهر، حتى أن طفلي الرضيع أصبح يأكل الطعام المتوفر رغم خطورة ذلك على صحته لأن أمه غير قادرة على إرضاعه كونها لا تأكل جيداً".
8 أطفال دون سن الخامسة لقوا حتفهم بسبب سوء التغذية في غزة
يلاحظ إيهاب العوارض التي تظهر على أجساد أطفاله بسبب سوء التغذية، ومنها الاصفرار، خصوصاً أسفل العينين، وبروز عظام القفص الصدري من قلة الأكل، وهو شخصياً خسر 25 كيلوغراما من وزنه خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، كما أن طفله الأصغر يبكي بشكل شبه مستمر لا يشعر بالشبع، أو لأن الطعام المتوفر يتسبب له بتقلصات في المعدة، وهو يتعامل مع ذلك عبر عشبة الكراوية التي وجدها بصعوبة، ويقوم بغليها وإرضاعه بها للتخلص من آلام البطن.
يقول لـ"العربي الجديد": "أسكن في حي النصر بوسط مدينة غزة، ومنذ بداية الشهر الحالي، لم أنم يوماً وفي معدتي طعام، وأطفالي يسألونني لماذا لا آكل معهم، وأكذب بشكل متكرر قائلاً إنني أكلت قبلهم، وهم برغم ما أحاول توفيره لهم من طعام تظهر عليهم علامات الهزال وفقدان التركيز، وتتكرر إصابتهم بالإسهال، وطفلي الصغير الذي يرضع من والدته أصبح هزيلاً، وأحيانا أخشى أن أخسره".
في مدينة رفح التي يتواجد فيها أكثر من مليون نازح، ورغم أن الأوضاع فيها أفضل قليلاً من شمالي القطاع من حيث توفر بعض الغذاء، لا يجد حمزة أبو الهين الحليب لطفليه سلام (3 سنوات) وإيمان (سنتين) اللذين يعانيان من سوء التغذية، ومن إسهال متكرر بسبب قلة السوائل. يقول لـ"العربي الجديد": "أبحث عن الحليب منذ خمسة أيام، والأطفال لا يتقبلون شرب المياه بسبب شدة ملوحتها، وأصبحت تؤثر عليهما سلباً، ورغم توفر بعض الأطعمة إلا أنهما يكرران طلب الحليب".
وحسب بيانات وزارة الصحة، فإن نحو مليون شخص أقل من 18 سنة يعيشون في قطاع غزة، وجميعهم تقريباً يواجهون مخاطر سوء التغذية، خصوصاً مع تقلص المساعدات الإنسانية خلال الأسابيع الأخيرة، وكذلك عدم وصول المساعدات إلى شمالي القطاع منذ أشهر.
وأكدت مصادر في وزارة الصحة في غزة أن 8 أطفال دون سن الخامسة لقوا حتفهم بسبب سوء التغذية في قطاع غزة خلال الشهرين الأخيرين. في حين أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" خلال شهر فبراير الحالي، أن الوضع أكثر خطورة على الأطفال في شمالي القطاع من جنوبه، وأن 10 في المائة من الأطفال دون سن الثانية يعانون من سوء التغذية الحاد، معتبرة أن "تدهور الوضع الغذائي لشعب خلال ثلاثة أشهر أمر غير مسبوق على مستوى العالم".
ويشير أخصائي طب الأطفال نائل عليوة، إلى أن الحوامل والرضع هم الأكثر عرضة لمخاطر سوء التغذية في قطاع غزة، وأن ضمان توفير أنماط غذائية وخدمات ورعاية كافية للأطفال والنساء أمر شديد الأهمية لسلامتهم. ويوضح لـ"العربي الجديد": "حسب تصنيف منظمة الصحة العالمية لتغذية المرضعات والنساء الحوامل، فقد تم تحديد أنماط التغذية التي ينبغي أن تشمل كميات من الفواكه والخضروات، ومشتقات الحليب، والأسماك واللحوم، حتى يمكنها أن توفر العناصر الأساسية في الحليب الذي تنتجه لإرضاع طفلها، لكن نساء غزة اليوم بعيدات تماماً عن أي غذاء صحي، وهناك آلاف الرضع، وخصوصا من ولدوا خلال العدوان، معرضون لخطر سوء التغذية الذي قد يؤدي إلى الوفاة".
يضيف عليوة الذي يعمل متنقلاً في عدد من المراكز الصحية بمدينة رفح التي تقدم الرعاية للحوامل والأطفال: "تعرض الأطفال إلى سوء التغذية، خصوصاً الرضع، قد يؤدي إلى مشاكل صحية كبيرة، من بينها نقص الوزن، والهزال، وتأخر النمو الطفل، وعلى صعيد النساء الحوامل، فإنهن في حال عدم تلقي الغذاء الجيد، يمكن أن يؤثر ذلك على الجنين، وقد يؤدي إلى وفاته، وهناك حالات حصلت بالفعل في مستشفيات مدينة رفح، وعادة ما نوصي بعدم الرضاعة عندما تصل المرأة إلى حالة توتر شديد، لأن هذا ينعكس سلباً على صحة الطفل".
يتابع: "رصدنا وجود أنواع حليب أطفال دخلت عبر المساعدات، لكنها رغم قلتها ليست صحية، وقد تتسبب في مخاطر. الخطر الأكبر على الرضع بعد غياب الحليب هو عدم توفر أنواع الحليب المدعمة بالعناصر الغذائية، وكثير من الأطفال من عمر 3 إلى ست سنوات الذين فحصتهم كانوا مصابين بالإسهال بسبب نقص السوائل والتغذية غير المستقرة، وهناك أطعمة يجبرون على تناولها يصعب عليهم هضمها، ولا يتوفر نظام غذائي متكامل في قطاع غزة بالمطلق، والحليب تحديداً لا يمكن تأمينه".