تغيرت معالم قلعة الشقيف في بلدة أرنون، بالنبطية، جنوبي لبنان، كثيراً مع السنوات، لكنّ القلعة التي عُرفت تاريخياً بأسماء عدة منها: القلعة الجميلة، والحصن الجميل، ووكر النسور، وقلعة شقيف أرنون، والتي تقع فوق شير صخري (مرتفع صخري تحيطه أودية عميقة)، بقيت صامدة رغم ما أصابها من تشظّ. أبرز الهجمات عليها كانت من الاعتداءات الإسرائيلية من قصف بالمدفعية والطائرات، إذ كانت مركزاً لقوات المقاومة المشتركة، اللبنانية - الفلسطينية، حتى عام 1982، الذي شهد في 6 يونيو/ حزيران "معركة الشقيف" وفيها نفذ جيش الاحتلال عملية عسكرية ضخمة لاحتلال القلعة استخدم فيها المدفعية والغارات الجوية ما أدى إلى انهيار أجزاء كثيرة منها وأفقدها معالمها جزئياً، وبقيت تحت سيطرة الاحتلال حتى الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، في مايو/ أيار 2000.
قلعة الشقيف التي تقع في نطاق بلدة أرنون، في قضاء النبطية، ترتفع عن سطح البحر نحو 710 أمتار، وتجذب المارة من بعيد بسحر منظرها متربّعة على عرشها فوق شير صخري يرتفع نحو كيلومترين فوق مجرى نهر الليطاني، عند جسر الخردلي، الذي يربط بين بلدات محافظة النبطية (جبل عامل) بمحافظة البقاع. طريق الوصول إليها عبر بلدة أرنون وغيرها دونه مصاعب جمّة، بسبب موقعها فوق هذا الشير المطلّ على الجهات الأربع إذ يمكن رؤية العديد من القلاع في جنوب لبنان، كذلك القرى والبلدات اللبنانية غرباً بما فيها الساحل اللبناني والجهة المقابلة؛ جبل الشيخ وسلسلة جبال لبنان الشرقية كذلك الجولان السوري المحتل والجليل الأعلى شمالي فلسطين المحتلّة ووادي الأردن وغيرها كثير.
عند الوصول إلى القلعة تطالعك قاعة بنيت حديثاً أسفل تلّة صغيرة تتصل بالقلعة عبر جسر خشبي قابل للنقل ما يؤدي إلى عزل القلعة عن محيطها، وهو المدخل الوحيد إليها تاريخياً ما شكل عائقاً أمام الغزاة. هذه القاعة فيها لوحات وصور توثق تاريخ القلعة والحقب التي مرت بها، ودوّن عند مدخلها "قلعة الشقيف"، وبالفرنسية "BEAUFORT" أي الحصن الجميل.
اختلف المؤرخون حول تاريخ بناء القلعة، لكن بحسب مديرية الآثار في لبنان، وما تعرضه في قاعة القلعة، من معلومات وصور قديمة، يعود البناء إلى القرن الثاني عشر الميلادي، في عهد الصليبيين، تحديداً فولك "ملك مملكة بيت المقدس" فيما يذكر البعض أنّ القلعة بنيت في عهد الرومان. تقع القلعة على مساحة 160 متراً طولاً و100 متر عرضاً، وشكلها أقرب إلى المستطيل، وهي ضيقة جداً بسبب طبيعة المكان الذي بنيت عليه. أما حجارتها فاقتلعت من المكان نفسه، ومن محيط بلدة أرنون، وهي ليست حجارة ضخمة، كما أنّها غير منحوتة مع بروز في وسطها. يحدّ القلعة من الشرق مجرى نهر الليطاني، ومن الجنوب هناك حوض صخري، ومن الغرب خزانات محفورة في الصخر، ومن الشمال حوض محفور بالصخر، بالإضافة إلى أحواض ضخمة داخل القلعة لتجميع المياه واستخدامها في أيام الشحّ أو الحروب.
قلعة الشقيف مكونة من عدة طبقات، كلّ طبقة منها تشهد على حضارة بانيها من الصليبيين، ومن قبلهم، وصولاً إلى العثمانيين، وربما يعود عهد بعض الأقسام إلى الرومان والفينيقيين.
في اتصال مع "العربي الجديد"، يؤكد أستاذ مادة تصدّع الإنشاءات والترميم في "الجامعة اللبنانية" الخبير في ترميم الآثار، الدكتور المهندس يوسف حمزة أنّ "القلعة تعود الى زمن الفينيقيين، لكنّها تطوّرت إلى أن باتت عبارة عن سدّ وحصن عسكريّ ما بين تخوم الشام الغربية والداخلية، إذ إنّ هناك عدة قلاع، كلّها على مرمى واحد وصولاً الى فلسطين المحتلة، وكانت القلاع هذه تحمي المناطق الداخلية، لكنّ الصليبيين طوّروها وباتت حصوناً عسكريّة فعليّة لهم".
ويحيط بالقلعة العليا سور عائد إلى بداية عهد الفرنجة في القرن الثاني عشر. وخضعت القلعة لتعديلات خلال القرن الثالث عشر، إذ جرى تعزيز جهتها الجنوبية ببرجين دائريين ضخمين، في حين استحدث برج مربع وآخر مسدس دفاعاً عن الجدار الغربي وطرفه الشمالي داخل حرم القلعة العليا، تليه قاعة مصممة على الطراز القوطية، وإنشاءات سكنية من الحقبتين القروسطية والعثمانية. وشيّد الجزء المعقود من القلعة السفلى في العهدين الأيّوبي والمملوكي، وهو محميّ بسور وأربعة أبراج دائريّة، وتتألّف القلعة السفلى من مدخل وإسطبلات وقاعات للرماية والتخزين ومعاقل وترسانة، وعند طرفها الشمالي برج سكني. وعند الجانبين الغربي والجنوبي للقلعة، وهما أكثر الأجزاء المكشوفة فيها، جرى حفر وبناء خندق لعزل القلعة عن محيطها.
بدأت الدولة اللبنانية منذ سبتمبر/ أيلول 2010، بتمويل من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، تنظيم ورشة إعادة ترميم وتأهيل للقلعة استمرت نحو أربع سنوات. وخلال عملية الترميم، جرى اكتشاف العديد من الأقبية والجدران والقاعات غير المعروفة سابقاً في خرائط القلعة، كما كشف مجدداً على الخندق الصخري المطمور منذ سنوات والذي يصل إلى مجرى نهر الليطاني، وهو خندق يحيط بالقلعة من ثلاثة جوانب، فضلاً عن إزالة الأتربة عن جدران القلعة وأبراجها والتي كانت تتراكم بشكل كبير جداً، مما زاد من بروز شكل القلعة.
يشير حمزة إلى أنّه، بعد تحرير جنوب لبنان وبقاعه الغربي من الاحتلال الإسرائيلي، عام 2000 ، كان قد أعدّ دراسة تاريخية عن القلعة عرض فيها للمراحل التي مرت بها، وصولاً إلى يومنا الحاضر، وخلص إلى مجموعة اقتراحات "أرسلتها إلى مديرية الآثار في وزارة الثقافة، وهي تتعلق بإعادة ترميم القلعة وجعلها معلماً ثقافياً وتاريخياً مميزاً، على أن يقوم طلاب من الجامعات اللبنانية، بجميع العمليات، ما يؤدي إلى إفادة الطلاّب اللبنانيين وتوفير النفقات المالية على الدولة، لكنّ ما حصل هو أنّ الدولة جاءت باستشاريين ليست لهم علاقة بالدراسات الأثرية. ما كنّا نتمنّاه هو أن تكون هناك دراسة علمية متكاملة وترميم علمي كامل، فعلى سبيل المثال، لا يمكن بدء الترميم قبل الحصول على صورة متكاملة للقلعة، وقد لاحظت أنّه لم يتم ترميم القلعة كما يجب، خصوصاً أنّه لم يكن هناك ترقيم للأحجار بعد هدمها وإعادة ترميمها". يؤكد أنّ "الترميم هو إعادة الشيء إلى ما كان عليه سابقاً، وهذا ما لم يحصل، والدليل على ذلك أنّ الصخور والحجارة جرى حشوها بطريقة غير صحيحة، بدلاً من أن يقوموا بتقصيبها وتسويتها ووضعها في مكانها الصحيح لتأخذ الطابع القديم. أسجّل اعتراضي على طريقة الترميم هذه".
ومن الصحيح أنّ القلعة مفتوحة أمام الزائرين، في الظروف العادية خارج قيود فيروس كورونا الجديد، كما أطلق "مهرجان الشقيف" عام 2018، لكنّها مع ذلك، تشهد إهمالاً كبيراً، فالأضواء الكاشفة إمّا معطّلة أو مكسورة، واللوحات التوجيهية داخل القلعة مهشّمة، وهو وضع برسم وزارة الثقافة ومديرية الآثار للاهتمام بهذه القلعة التي كانت وستبقى شاهدة ليس على ما جرى فيها إنّما أيضاً على المنطقة المحيطة بها من الجهات الأربع. وفي هذا الإطار، يقترح الدكتور حمزة "تأسيس وحدة حراسة دائمة للقلعة من خلال شرطة اتحاد بلديات الشقيف، وهو ما يحمي القلعة من التعديات، كما يجب أن يتواصل العمل في القلعة، وإن جمّدت الظروف الاقتصادية الصعبة في لبنان كلّ شيء".