قد لا يفكر الإنسان بالضرورة بحجم التلوث البيئي الضخم الذي تسببه الأنظمة الغذائية المتبعة في العالم حين يتحدث عن الغذاء والطعام. لكن تقارير الأمم المتحدة تؤكد أن الإنتاج الغذائي ومعالجته وتوزيعه واستهلاكه تساهم في حوالي ثلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وترتبط بقضايا محورية إضافية بينها الغذاء الصحي واستغلال مصادر المياه والتجارة والتوزيع العادل للثروات واستغلال الأراضي الزراعية والتصحّر، إلى جانب تحقيق أهداف التنمية المستدامة ومكافحة الجوع وإهدار الغذاء وغيرها.
تشير تقارير دولية، من بينها لمنظمة الأغذية والزراعة (فاو)، إلى أن الأنظمة الغذائية المتبعة في العالم تواجه مجموعة ضغوط، بينها النمو السكاني السريع والتوسع الحضري والثروة المتنامية، وما يترتب عنها من تغيرات في أنماط الاستهلاك تتحدى قدرة هذه الأنظمة على توفير طعام صحي يؤمن مستلزمات التغذية المطلوبة، ويساهم في تعزيز فرص العيش بطرق مستدامة للجميع. وتتحدث التقارير أيضاً عن أن الأنظمة الغذائية في العالم فشلت في تحقيق هدف التنمية المستدامة الخاص بالقضاء على الجوع بحلول عام 2030. ويرصد تقرير أصدره برنامج الأغذية العالمي أخيراً "معاناة حوالى 811 مليون شخص في العالم من انعدام الأمن الغذائي، رغم أن البشر ينتجون كميات غذاء كافية لإطعام الجميع"، إضافة إلى وجود الهدر في الغذاء حيث يُفقد 14 بالمائة من الأغذية ويُهدر 17 بالمائة منها. ويتحدث عن نسب هدر عالية جداً في دول عربية مثل السعودية، وتلك الصناعية والغنية.
غذاء نصف العالم غير صحي
في المقابل، أكد تقرير أصدره برنامج الأمم المتحدة للبيئة هذا العام أن "مواجهة التغيّر المناخي تحتم مساهمة الشركات والحكومات والناس في تقليص هدر الغذاء، الذي يتسبب في نسبة 8 إلى 10 في المائة من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري". ومع تزايد السكان وتأكيد ارتباط التغيّر المناخي بنظم التغذية، ليست صدفة مشاهدة تحركات أكبر للتعامل مع التحديات، أهمها عقد الأمم المتحدة قمة حول الغذاء نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، من أجل محاربة التغير المناخي وتغيير وتحسين النظم الغذائية المتبعة. وستناقش قمة المناخ الـ26، التي تستضيفها مدينة غلاسكو الاسكتلندية وتنطلق يوم غدٍ الأحد، موضوع الأنظمة الغذائية والمناخ، كما سيعقد على هامشها "حوار عن الغذاء من المزرعة حتى تناوله"، يهدف إلى جمع ممثلي المجتمعات الزراعية والمدن والولايات والمناطق المختلفة من أجل خلق مساحة لحوار بنَّاء عن الغذاء وتغيّر المناخ، وتحسين الفهم المتبادل لطموحات وظروف الآخرين، وبناء روابط وشراكات جديدة. ويتوقع أن يصدر في ختام القمة إعلان يتبنى الحاجة إلى سياسات غذائية متكاملة لمعالجة حالة الطوارئ المناخية، والوضع المتفاقم للأمن الغذائي في العالم، حيث لا يستطيع نحو نصف سكان العالم، أي ثلاثة مليارات شخص، الحصول على غذاء صحي.
واللافت أن الأمم المتحدة تشير إلى أن "سوء التغذية مترسخ بأشكال مختلفة، بينها السمنة المفرطة أيضاً، ما يؤدي إلى تأثيرات سلبية كبيرة على النظام الصحي والتعليم والاقتصاد، وإلى ترسيخ الفوارق الجندرية". وتتحدث عن أن "النزاعات والظواهر المناخية المتطرفة والتقلب الاقتصادي الناتجة عن الفقر وارتفاع مستويات عدم المساواة، فاقمت أسباب انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية".
ولا تنحصر قضية سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي في الدول الفقيرة والنامية، بل تشمل دولاً غنية مثل الولايات المتحدة. وكشفت إحصاءات رسمية أجرتها وزارة الزراعة الأميركية أخيراً أن 10.5 في المائة من الأسر الأميركية عانت من انعدام الأمن الغذائي خلال عام 2019، بينها 4.1 في المائة (5.3 ملايين أسرة) تعيش في أمن غذائي منخفض للغاية. وهذا رقم منخفض عن عام 2018 حين وصلت نسبة الأسر الأميركية التي عانت من انعدام الأمن الغذائي إلى 11.1 في المائة.
صحارى الطعام
وفي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي، قال الرئيس الأميركي جو بايدن: "في وقت لا يستطيع واحد من كل ثلاثة أشخاص في العالم الحصول على غذاء كافٍ، نلتزم بحشد شركائنا لمعالجة سوء التغذية فوراً، وضمان تأمين إطعام العالم في شكل مستدام لعقود قادمة. من هنا، سنقدم 10 مليارات دولار لإنهاء الجوع والاستثمار في أنظمة الغذاء داخل الولايات المتحدة وخارجها". وإلى جانب انعدام الأمن الغذائي، أشار بايدن إلى مسألة توفير طعام صحي باعتباره "من التحديات الرئيسة، خصوصاً أن تبعاته تنعكس على مجالات اجتماعية وصحية واقتصادية".
وتتحدث تقارير عن أن نحو 20 مليون أميركي يعيشون في ما يطلق عليها "صحارى الطعام"، وهي مناطق لا يمكن أن يحصل سكانها على غذاء صحي، وبينها خضراوات وفواكه، بطريقة سهلة. وتزيد تعقيدات المشكلة حين يقدم جزء من "مخازن الغذاء" في البلاد، وهي جمعيات مدعومة حكومياً لتوفير الطعام لفقراء ومحتاجين، أغذية غير صحية ومعلبات وأطعمة محفوظة ومصنعة بلا خضار أو فواكه.
وكان وزير الزراعة الأميركي توم فيلساك أكد لـ"العربي الجديد"، على هامش قمة الأمم المتحدة للأنظمة الغذائية في نيويورك، أن "واشنطن تنوي اتخاذ خطوات عملية محلياً لتعزيز إمكانات الناس الأكثر حاجة للحصول على غذاء صحي". وأضاف: "بالنسبة إلى قضية الطعام الصحي، ننفذ برنامجاً للغذاء الصحي والطازج نشجع من خلاله على استخدام بطاقات المساعدة لاقتناء الخضار والفواكه. كما نعمل مع الأمهات الصغيرات سناً والأطفال على زيادة الموارد وتشجيعهم على شراء خضار وفواكه لن يستطيعوا الحصول عليها عبر برامج المعونات العادية، وندرس تزويد مخازن الغذاء بثلاجات إضافية تسمح بتخزينها كميات من الخضار والفواكه. وقد كثفنا التركيز على الأطعمة الصحية في وجبات الغداء لتلاميذ المدارس من أجل خفض كمية السكر والمواد في الجسم، ونعمل مع اختصاصين في هذا المجال للتأكد من أننا سنحقق هذه الأهداف فعلاً، علماً أن الإدارة ستستثمر 5 مليارات دولار في تعزيز أنظمة الغذاء، وضمان وصول جميع الأميركيين إلى أنظمة غذائية صحية، والاستثمارات في أسواق فعالة لتحسين شمولية ومرونة أنظمتنا الغذائية. كما تدعم باقي الاستثمارات المحلية التوسع في الزراعة الذكية مناخياً والغابات".
خارج الحدود البيئية
في السياق، تؤكد نائبة الأمين العام للأمم المتحدة أمينة محمد، في حديثها لـ"العربي الجديد" أن "اتباع نهج شامل في معالجة قضية الطعام أو الغذاء بات أكثر وضوحاً اليوم. وقد وحدنا الجهود الخاصة في قطاعات المياه والطاقة والزراعة لمعالجة القضية ذاتها، وتعزيز فعالية العمل لضمان حصول الأكثر ضعفاً على غذاء صحي وخفض كلفة الطعام ونسبة الهدر. وهذا الجزء الأكثر تعقيداً".
وترى "فاو" أن إحداث تحوّل ملموس في النظام الغذائي والزراعي العالمي يتطلب العمل في مجالات عدة، بينها الخيارات العادية التي يتخذها المستهلك في شأن الأغذية التي يتناولها، وكيفية شرائها ومكانها وتعبئتها ومصدرها والنفايات الناتجة عنها. ومن أجل تحقيق هدف التنمية المستدامة الخاص بالقضاء على الجوع بحلول عام 2030، تطالب "فاو" باستثمار ما بين 40 و50 مليار دولار أميركي في مشاريع وأهداف محددة. وتلفت إلى أنه يمكن الاستثمار في مشاريع منخفضة الكلفة ذات تأثير واسع على صعيد تلبية الاحتياجات الغذائية لمئات الملايين من الناس في شكل أفضل. ويقول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إنه "لا يمكن الاستمرار في اعتماد نهج النظام الغذائي الحالي الذي فشل في تحقيق الأهداف المنشودة، وفي إبقاء العالم ضمن الحدود البيئية لكوكبنا".