لا تخلو الصور والفيديوهات المتداولة حول أزمة الخبز في لبنان من مشهديّة ليست الأولى من نوعها، إذ تُسجّل في معظم الأحيان اعتداءات لفظية وجسديّة بحقّ اللاجئين السوريّين، وفي أكثر من منطقةٍ لبنانية، على أيدي مواطنين ممتعضين يبرّرون ارتكاباتهم بـ"أحقّية الحصول على الرغيف اليومي، على اعتبار أن اللاجئين سرقوا خبزهم وأعمالهم ومصالحهم وفاقموا الأزمة القائمة في البلاد". في المقابل، يبدي لبنانيّون آخرون تعاطفهم مع اللاجئين "الذين يحقّ لهم العيش بكرامة والتمتّع بأدنى مقوّمات الحياة وحقوق الإنسان".
ويأسف اللاجئ سامر إبراهيم، وهو متزوّج من لبنانيّة، لما يتعرّض له من "إذلالٍ وإهانة"، ويقول: "على الرغم من أنّني أملك إقامة لبنانيّة، إلا أنّني أواجه العديد من المشاكل أينما كان في لبنان، وأخيراً في الأفران، حتّى أصبح ذهابي إلى الفرن كالعقاب. وتنهال عليّ المشاكل وخطابات الكراهية، ولا أسمع سوى أنتم السوريّون أخذتم خبزنا وشغلنا وتسبّبتم بالأزمة".
"ممنوعٌ عليكم الخبز"
سامر، وهو أب لثلاثة أطفال، أكبرهم في العاشرة من العمر وأصغرهم لم يتجاوز العامين ونصف العام، يتحسّر على ما آل إليه واقعهم المرير، "فمن أجل ربطة خبزٍ بالكاد تسدّ جوع أطفالي، أضطرّ للسكوت وتحمّل الكفّ تلو الآخر. وقفتُ بالأمس ستّ ساعات أمام باب الفرن قبل أن يعمد بعض الأشخاص إلى تكسيره وضربنا وطردنا، مردّدين ممنوعٌ عليكم الخبز، فكيف لي أن أُطعم أولادي؟ هل نحن كفّار حتّى نُحرم من لقمة العيش؟"، ويلفت إلى أنّه "تعرّض للملاحقة في أحد الأيام، وهو في طريقه إلى البيت في منطقة سعدنايل (قضاء زحلة في محافظة البقاع)، وقد أوقفه عددٌ من الشبان وتهجّموا عليه وانتزعوا منه ربطة الخبز".
يتابع: "الأزمة على الجميع وليس فقط على اللبنانيّين، ونحن أصلاً نعاني الأمرّين كلاجئين، وندفع الضرائب والرسوم. نحن في الخندق نفسه وأطفالنا كأطفالهم مهدّدون بالجوع، وصرختنا معيشيّة محض، إذ إن القضية إنسانيّة بالدرجة الأولى"، ويسأل: "هل كان سيُحرم اللبناني من الخبز في سورية؟ وهل كنّا سنضربه ونعتدي عليه؟".
خوف من الكلام
الوجع نفسه تسرده لاجئة ثلاثينيّة فضّلت عدم الكشف عن هويّتها، وتقول: "وضعنا صعب ولا نجرؤ على الكلام بتاتاً، وإلا نصبح عرضة للقتل والشتيمة والإهانة، وباتت عبارة فلّوا (ارحلوا) إلى بلدكم ترافق يوميّاتنا وتطرق مسامع أولادنا".
اللاجئة الأم لستّة أولاد، أكبرهم بعمر 15 سنة وأصغرهم طفلة بعمر خمسة أشهر، تتحدّث عن الإذلال اليومي الذي تختبره أمام باب الفرن، إذ تقف منذ الصباح الباكر ولساعاتٍ تحت أشعة الشمس كي تحصل على خبزٍ لأولادها، وتقول: "نقاسي صعوبات عديدة، ونتعرّض للطرد خارج الفرن فقط لأنّنا سوريّون، علماً أنّني بحاجة يوميّاً لخمس ربطات من الخبز، لكنّني لا أحصل سوى على واحدة أو اثنتين، ناهيك عن الحليب المفقود الذي تحتاجه طفلتي".
وتختصر معاناتها مع عائلتها بالقول: "نعيش ونقتات من جمع البلاستيك وبيعه. فالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تخصّص لنا أربعة ملايين ليرة لبنانية (نحو 137 دولاراً أميركيّاً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء شهرياً) بالشهر، ندفع منها مليوناً ونصف المليون ليرة (نحو 50 دولاراً أميركيّاً بحسب سعر الصرف في السوق الموازية) كبدل إيجار للمنزل، ومليوناً ونصف المليون ليرة بدل فاتورة كهرباء، فماذا يبقى لنا؟ بالكاد ثمن الخبز"، تضيف: "اختنقنا وتعذّبنا كثيراً منذ لجوئنا إلى لبنان، فنحن المتّهمون الأوائل بأيّ تطوّرٍ يحصل على الساحة اللبنانيّة، ونكون على الداوم عرضةً للهجوم على منازلنا من دون أيّ حسيبٍ أو رقيبٍ، ناهيك عن أنّ أطفالنا حُرموا من الطفولة والدراسة وكلّ شيء. فوضعنا المادي لا يسمح لنا بمواصلة تعليمهم، إذ يتوجب علينا تأمين بدل النقل إلى المدرسة وثمن الكتب والقرطاسيّة، ولا أمل لدينا سوى الهجرة من لبنان إلى بلدٍ ثالثٍ يعاملنا كبشر".
اعتداءات وإذلال
تختزل أم حسن قساوة الحياة في لبنان بالقول: "قتلت الأزمة أرواحنا، فمنذ أسبوعٍ ونحن من دون أيّ فتات خبزٍ علماً أنّ زوجة ابني حامل. لكنّنا لا نجرؤ على الذهاب للأفران خشية التعرض للضرب أو المضايقات، وخصوصاً أنّ شابّاً سوريّاً تعرّض للضرب منذ أيّام، كما طُعن بالسكين وكاد أن يفارق الحياة. كما تعرّض أحد أفراد عائلتي لقنابل صوتية رُميت عليه وعلى اللاجئين الموجودين إلى جانبه، وذلك في بلدة عرسال (شرقيّ لبنان)، لدى ذهابه لشراء الخبز من الفرن، فأُصيب البعض ونُقل إلى المستشفى". وتأسف اللاجئة المسنّة لما تسمعه يوميّاً وتقول: "يقولون لنا علناً لا نعطي الخبز للسوريّين. فهل هناك أكبر من هذا الإذلال؟".
أمّا إبراهيم مسلماني (أبو مسعود)، اللاجئ السوري والناشط الإنساني في بلدة عرسال الحدوديّة، فيستنكر ما يتعرّض له اللاجئون من "تعدياتٍ حصلت في بعض أفران البلدة، حيث كان يقف عدد من الزعران خلف طوابير الخبز، بانتظار كلّ شاب يأتي على دراجة نارية، فينهالون عليه بالضرب فوراً، مستخدمين العصا والعنف الشديد، ومن ثمّ يلوذون بالفرار قبل وصول القوى والعناصر الأمنية".
ويأسف لأن "بعض أصحاب الأفران يُطلقون بدورهم عبارات ومفرداتٍ مهينة بحقّ الشعب السوري، ما يؤجّج الوضع أكثر ويؤدّي إلى مشهدٍ غير حضاريّ لا يمثّل لبنان وشعبه، إنّما يعبّر فقط عن عددٍ من اللبنانيّين الذين يحملون فكراً معادياً للسوريّين. أمّا نحن كناشطين، فقد بادرنا إلى زيارة بعض الشخصيات المؤثّرة في المجتمع وتفعيل سبل التواصل عبر مجموعاتنا المختلفة من أجل تعزيز أجواء التهدئة ودرء الفتنة المبيّتة، وقد ساهم ذلك نوعاً ما في التخفيف من حدّة النقاشات، لا سيّما أنّنا علمنا من أحد أصحاب الأفران أنّ سبب الأزمة يكمن بتخفيض كمية الطحين من 200 طن إلى 95 طنّاً شهريّاً".
ويأمل أبو مسعود بـ"الفرج والعودة الآمنة إلى سورية"، عازياً ما يحصل في الشارع اللبناني من انتهاكاتٍ بحقّ السوريّين إلى "المؤثرات السلبيّة التي تعكسها تصريحات بعض السياسيّين في لبنان، والتي تعطي اللبنانيّين الضوء الأخضر لإهانة السوريّين والاعتداء عليهم".
دعم المجتمع الدولي
تقول المسؤولة الإعلامية والمتحدثة الرسمية لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان دلال حرب إنّ "استمرار دعم المجتمع الدولي للبنان أمرٌ بالغ الأهمية لضمان الوصول الآمن للغذاء والاحتياجات الأساسية الأخرى، لا سيّما مع ما تحمله الأزمة الاقتصادية من وقعٍ مدمّر على الجميع، وخصوصاً الفئات الأكثر ضعفاً".
تضيف: "في ظلّ الوضع الراهن الشديد الصعوبة، نشهد زيادة في التوترات بين الفئات المختلفة. كما تشعر المفوضية بالقلق إزاء الممارسات التقييدية والتدابير التمييزيّة التي يتمّ تفعيلها على أساس الجنسيّة، ما يؤثّر على اللاجئين وغيرهم"، مناشدةً أن "يستمرّ الاحترام المتبادل وروح التضامن اللّذين أظهرتهما الفئات في لبنان على مرّ السنوات".
من جهتها، تقول رئيسة جمعية "سوا للتنمية" نوال مدلّلي إنّ "الحالة الاقتصادية ألحقت الضرر بكلّ المقيمين على الأراضي اللبنانية من كلّ الجنسيات، وآخرها فقدان الخبز نتيجة عدم توفر الطحين والقمح"، وتقول لـ"العربي الجديد": "موضوع التحريض على اللاجئين السوريّين سياسيّ بامتياز، وبدأ قبل أزمة الخبز، علماً أنّنا لا نستطيع أن نقول للطفل الجائع ممنوع أن تأكل لأنّك لاجئ سوري".
وعن اتّهام اللاجئين بأنّهم يشترون الخبز ثمّ يبيعونه في السوق السوداء، ترى مدلّلي أنّ ذلك "يندرج في إطار الأخبار المتناقلة فحسب، ومن دون أيّ تأكيد بشأنه"، تتابع: "نحن لا نُنكر وجود محتكرين ومستغلّين ومتاجرين من كلّ الجنسيات، لكن هل نسينا أزمة البنزين والمازوت والأدوية وفقدان موادٍ غذائية أساسيّة في المحال والسوبرماركت؟ فهل كان اللاجئ السوري أو الفلسطيني هو الذي يخفي هذه المواد؟".
وتشير إلى أن "الحملة ضد اللاجئين ممنهجة، كونهم الحلقة الأضعف"، قائلة: "نساند حقوق أيّ إنسان مهما كانت جنسيّته أو هويّته أو لونه. فمن حقّه أن تتوفر له أدنى معايير العيش الكريم"، وتتحدث عن بيان شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، "الذي اتّهم فيه أصحاب الأفران ببيع الطحين المدعوم الذي يُسلّم على سعر الصرف الرسمي (أيّ 1500 ليرة لبنانية لكلّ دولار أميركي)، في السوق السوداء بسعر يصل إلى 29 ألف ليرة لكلّ دولار أميركي، أو بتهريبه خارج البلاد. علماً أنّ لبنان يستورد قمحاً بقيمة نحو 160 مليون دولار أميركي، لكنّ الأفران والمخابز تستهلك القمح والطحين لصنع الحلويات والكعك، كونها تدرّ عليها أرباحاً هائلة تصل إلى 300 مليون دولار أميركي، ما يعني أرباحاً بمعدّل مائة في المائة، من دون مراعاتهم حاجة آلاف الأشخاص إلى رغيفٍ يسدّ جوعهم وجوع أولادهم".
على المقلب الآخر، يرى المواطن اللبناني عماد الطبش أنّ "اللاجئين السوريّين هم من الأسباب الرئيسيّة لانهيار اقتصاد لبنان، من دون أن ننسى الفساد السياسي في البلاد"، ويقول لـ"العربي الجديد": "هناك ما يقارب أربعة ملايين لاجئ سوري، وليس كما تدّعي المنظمات الدولية بأنّهم قرابة مليوني نازح. فالمسألة ليست بخطابٍ عنصريّ ضدّهم، إنّما كيف للبنان أن يحتمل كلّ هذا العدد منذ أكثر من عشر سنوات، وكيف لا ينعكس ذلك نزيفاً في العملات الأجنبية، وارتفاعاً في كمية النفايات، وزيادةً في استهلاك المياه والكهرباء والبنى التحتيّة، وفي حرمان المواطنين من أيّ نوعٍ من أنواع الدعم؟".
الأولوية للبنانيين في بعلبك
وكان محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر قد أصدر تعميماً طلب فيه من جميع أصحاب الأفران ضمن نطاق المحافظة، التقيّد بـ "بيع الخبز لجميع أصحاب الحاجة الفعلية، ضمن الأعداد التي من شأنها أن تغطي حاجة أكبر شريحة ممكنة، مع إعطاء الأولوية للمواطن اللبناني". ويؤكد لـ "العربي الجديد" أنّ "الأولوية طبعاً للمواطن اللبناني، لأنّنا نلحظ أنّ طوابير الأفران تضمّ نحو 10 في المائة لبنانيين و90 في المائة سوريين"، قائلاً: "تعميمنا ليس خطاباً عنصرياً، إذ إن العنصرية هي أن نرى جندياً في الجيش اللبناني راتبه لا يتجاوز أربعين أو خمسين دولاراً أميركيّاً، في وقت يتقاضى اللاجئ السوري في مخيمات المحافظة مائتَي دولار أميركي، 50 دولاراً أميركياً عن كل ولد، ويعمد إلى شراء الخبز وبيعه في السوق السوداء. في المقابل، يذل اللبناني في بلده بعدما خسر جنى عمره في المصارف، وبات عاجزاً عن تأمين ربطة الخبز".
يتابع: "لم نمنع بيع الخبز للاجئ السوري، لكن قلنا إن الأولوية للّبناني، وإذا اعتبروها عنصرية فلتكن. ومَن هو غير راضٍ، فليرحل إلى بلده"، مشيراً إلى أنّ "وزارة الداخلية والبلديات بصدد تحضير تعميم على كل الأفران لتنظيم الموضوع بشكل عام، وليس كسوري أو لبناني". ويلفت إلى أنّ "بعلبك الهرمل تضم أعداداً كبيرة من النازحين السوريين، ونحن ذاهبون نحو صراع بين المجتمع المضيف والنازحين، فكيف لعسكري يخدم تحت أشعة الشمس صيفاً ووسط حرارة متدنية شتاءً، أن يجازف بحياته من أجل أربعين دولاراً في الشهر، وهو يرى المخيمات السورية تتقاضى بالدولار؟". ويطالب "باتخاذ إجراءات تخفف التوتر والاحتقان بين الطرفين، كي لا نصل إلى حوادث أمنية واشتباكات لا تُحمد عقباها، كما شهدنا سابقاً".