بات للمرأة العراقية العاملة حضور قوي وبارز في مجتمعها، في ظل زيادة الأعباء المعيشية وحاجة الرجل إلى المساعدة، الأمر الذي لم يكن سائداً في السابق. وأصبحت نساء كثيرات قادرات على إدارة قيادة أسرهن على الرغم من وجود الزوج، خصوصاً إذا كنّ يتحملن المسؤولية المادية الأكبر داخل العائلة. غلاء المعيشة وقلة فرص العمل دفعا أعداداً كبيرة من النساء إلى خوض تجربة العمل للمرة الأولى في حياتهن بهدف دعم أسرهن ومساعدة أزواجهن. نجحت نساء في الحصول على عمل في وظائف حكوميّة، فيما أنشأت أخريات أعمالاً خاصة. وحققت كثيرات نجاحاً ملفتاً في مشاريعهن الخاصة، ما دفع أزواجهن إلى دعمهن. من بين هؤلاء سمية راضي، التي افتتحت قبل أكثر من عشرة أعوام محلاً صغيراً لبيع الأدوات المنزلية المصنوعة من البلاستيك، ليتطوّر عملها تدريجياً. واليوم، باتت تدير محال عدة لبيع مختلف الاحتياجات المنزلية من مواد بلاستيكية وغير بلاستيكية.
ويقول حاتم ولي، زوج سمية الذي يساعدها في إدارة عملها لـ"العربي الجديد"، إنه على الرغم من إصرار زوجته على العمل، إلا أنه لم يكن يعتقد أنها ستنجح، مضيفاً: "كنت قلقاً جداً، وأستعد يومياً لتلقي ضربة موجعة بخسارتها". يضيف: "في البداية، استأجرت زوجتي محلاً صغيراً وضعت فيه أنواعاً مختلفة من المواد المنزلية البلاستيكية، وأقنعت التاجر صاحب البضاعة، بأنها ستسدّد له المبلغ على دفعات من دون أن تدفع له أي مبلغ مقدماً". ويتابع: "بدأت زوجتي حملة إعلانية في محيط محلها ونالت سمعة جيدة، خصوصاً أنها عمدت إلى تخفيض أسعار السلع في حال عمد الزبون إلى شراء مجموعة من الأغراض". لكن مع مرور الوقت، نجحت زوجته ووسعت عملها وافتتحت محال أخرى لبيع البضائع نفسها في أحياء مختلفة في بغداد، ولديها اليوم ستة محلات يدير زوجها أحدها فيما تدار المحال الأخرى من قبل بعض الأقارب. وتباشر هي الإشراف على العمل والتعامل مع التجار. ويؤكد أنه سلّم جزءاً من قيادة الأسرة لزوجته، معترفاً بقدرتها الكبيرة على إدارة الأزمات والتفكير بطريقة صحيحة وتجاوز العراقيل بشكل سلس. كما تحظى باحترام من قبل المحيط العشائري والحي أيضاً.
كثيراً ما تنتقد المنظمات الحقوقية أوضاع المرأة العراقية. وأشارت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير صدر عام 2018، إلى أن النساء في العراق لا يتمتعن بالحماية القانونية الكافية في ما يتعلق بالعنف الأسري. أمر تؤكده عراقيات تحدثن إلى "العربي الجديد"، لكنهن أشرن أيضاً إلى نجاح نساء في تحقيق مكاسب مادية لأسرهن، من بين هؤلاء مها الحمداني، التي جعلت أسرتها تعيش في رفاهية بعد معاناة استمرت سنوات، شهدت تراكماً للديون من دون أن يكون زوجها قادراً على سدادها. وكانت النتيجة أن أقدم زوجها على تسليمها قيادة الأسرة، عن قناعة، هي التي عملت في تجارة الملابس والمستلزمات النسائية التي تأتي بها من سوق الجملة وتبيعها في منزلها عبر صفحتها على "فيسبوك".
كما تقدّم علاجات بسيطة للمرأة وتمكنت من افتتاح محل قرب مجمع للعيادات الطبية شمالي العاصمة بغداد. بعدها، اختارت محلاً كبيراً صارت تبيع فيه مختلف المنتجات الصحية. وتقول لـ "العربي الجديد" إن سبب نجاحها هو سعيها وإصرارها بالإضافة إلى طبيعة المجتمع العراقي المحافظ"، مشيرة إلى أن النساء والفتيات يفضلن أن تعالجهن امرأة، وشراء حاجاتهم الخاصة من امرأة أيضاً. وما هو إلا عام حتى استطاعت تسديد الديون المترتبة على أسرتها، والتي عجز زوجها عن سدادها. تضيف: "زوجي موظف بسيط. في المساء، يعمل في ورشة لتصليح الأجهزة الكهربائية"، مشيرة إلى أن أكثر ما دفعها للعمل هو التخلص من تسلط زوجها واحتقاره لها، هو الذي اعتبر أن ديونه مرتبطة بإنجابها ستة أولاد.
وتقول إن "بناتي اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 19 و11 عاماً يساعدنني في إدارة عملي، في وقت يساعدني ولداي في شراء احتياجات محلي".
سبعة أعوام مضت على نجاح غيداء في انتشال أسرتها لتتحول حياتها إلى أخرى مغايرة لما كانت عليه من قبل. تضيف ضاحكة: "لم يعد يعاملني زوجي كما في السابق وأصبحت مستشارته في كل شيء". العراق منذ نحو عقدين يعاني من مشاكل عدة منها البطالة وأزمة السكن وغلاء المعيشة، ويعود السبب وفق تقارير محلية ودولية إلى سوء الإدارة. ولم تحسن الحكومات المتعاقبة استغلال الواردات الضخمة التي دخلت ميزانياتها لنحو عشرة أعوام حتى عام 2014، قبل تدهور أسعار النفط الذي يعتمد عليه العراق في وارداته المالية.
وكان من بين أبرز التحولات في البلاد زيادة رواتب الموظفين الحكوميين خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، الأمر الذي أغرى العراقيين للحصول على وظيفة في دوائر الدولة.
تتقاضى هدى الشمري راتباً شهرياً قدره مليون دينار عراقي (نحو 850 دولارا)، لقاء عملها كمدرسة ثانوية، وأكثر من ضعفي هذا المبلغ من عملها الخاص. لا يتردد زوجها في القول إن هذا منزل الست هدى؛ فبفضل عملها تعيش العائلة حياة هانئة من دون أن تبالي بارتفاع الأسعار أو الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تمر بها العديد من الأسر.
تعمل هدى مدرّسة لمادتي الفيزياء والكيمياء. وبسبب إمكانياتها، تتصل بها العديد من المعاهد التي تعطي دروساً للتقوية، وهي مراكز أهلية تستقطب المدرسين الأكثر كفاءة لتقديم دروس للتلاميذ في مقابل مادي. وتعمل الشمري في ثلاثة معاهد في أوقات محددة من الأسبوع.
حيدر رشيد، زوج الشمري، يعترف في حديثه لـ "العربي الجديد"، أن طريقة تعامله مع زوجته خلال السنوات الأولى من زواجهما لم تكن مثلما هي عليه الآن. كل شيء تغير تدريجياً، تحديداً بعد مرور أربعة أعوام، أي عام 2009. يقول: "بدأت زوجتي تحصد ثمار تعبها واجتهادها، وباتت من أهم مدرسي الفيزياء والكيمياء بين تلاميذ منطقتنا في حي الجامعة (في العاصمة بغداد)".
يتابع: "بالنسبة إلي، أعمل في مجال طلاء المنازل، وهي مهنة يزداد عدد العاملين فيها مع ارتفاع نسبة البطالة. وغالباً ما يكون العمل موسمياً". يضيف: "دور زوجتي كبير في تحسين معيشة أسرتنا، وأعدّ هذا إنجازاً يحسب لها، وعلي أن أحترمه. كذلك، تتمتع بشهرة واسعة. وحين أحضر معها في مكان عام، تكون محط اهتمام الآخرين الذين يحيونها ويشكرونها لمساهمتها في نجاح أبنائهم". ويعترف رشيد (46 عاماً) بأن زوجته تستحق تحمل مسؤولية الأسرة، "فهي التي تقودها وهذه حقيقة لا أخجل منها. بفضلها، أسسنا داراً جديدة ودعمتني لأكون صاحب محل لبيع مواد البناء".