استمع إلى الملخص
- التحديات اليومية: تقدم التكيات طعاماً مكرراً منذ بدء العدوان في أكتوبر 2023. تعاني العائلات من نقص وسائل الطهي وارتفاع أسعار الأخشاب، مما يجعلهم يعتمدون على التكيات. الأطفال يضطرون لتحمل مسؤولية جلب الطعام.
- إغلاق التكيات وتخفيض الدعم: أغلقت العديد من التكيات أبوابها بسبب غياب الدعم، مما زاد من معاناة النازحين. يطالب أصحاب التكيات المؤسسات الدولية بدعمها لزيادة عدد الوجبات المقدمة، حيث يهدد غياب التمويل بحدوث مجاعة.
يعتمد الكثير من الغزيين المهجرين، وخصوصاً الفقراء منهم، على طعام التكيات للبقاء على قيد الحياة. من دونه، قد يُحرم أفراد عائلاتهم من الطعام، هم الذين يتناولون وجبة واحدة في اليوم.
يومياً، وقبل حلول الساعة العاشرة صباحاً، ترافق النازحة هالة إعلاو جارتها خلود بصل، وتحمل كل واحدة منهما طبقاً فارغاً وتسيران بخطوات متسارعة، وتصطفان في طابور أمام بوابة إحدى تكيات الطعام الخيرية الموجودة في منطقة المواصي غربي مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، إلى أن يحين موعد تقديم وجبات الطعام لتعود كل واحدة منهما بالغذاء لأولادها.
تعود إعلاو بوجبة الطعام الوحيدة لأطفالها الأربعة، فلا يأكلون غيرها على مدار اليوم من جراء الفقر. أمضت العائلة فترة كبيرة في خيمة ممزقة ومكشوفة من جميع النواحي، وقد لسعت حرارة شمس الصيف أجسادهم إلى أن منحتهم جهات خيرية خيمة أخيراً، لكن العائلة بقيت تعاني الجوع. والحال نفسه ينسحب على جارتها بصل، فخيمتها ممزقة ويعيش فيها سبعة أفراد، يعتمدون بشكل أساسي على طعام التكية الخيرية، بالإضافة إلى خبز الزعتر أو الفلافل كوجبة إفطار.
تقول إعلاو لـ "العربي الجديد": "نذهب باكراً حتى نستطيع اللحاق بطابور يصطف النازحون فيه من كل مراكز الإيواء المحيطة بمكان التكية الخيرية المكتظة بالنازحين الذين يأتون للحصول على الوجبة نفسها. وفي حال تأخرنا عن الموعد اليومي، لا نحصل على الأكل وننتظر قدوم زوجي مساءً، الذي يذهب للعمل ببدل زهيد، بل يعمل ساعات طويلة لتوفير بعض الاحتياجات الأساسية".
وجبة مكرَّرة
غالباً ما تقدم التكيات الخيرية في قطاع غزة طعاماً مكرَّراً وذلك منذ بدء العدوان على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كالعدس والمعكرونة والفاصولياء أو البازيلاء مع الأرز أو حساء البرغل. ورغم دخول أصناف من اللحوم إلى جنوب قطاع غزة وتوفرها في الأسواق، إلا أن ثمن الكيلوغرام الواحد منها يبلغ 32 شيكلاً (9 دولارات)، وهو مبلغ كبير بالنسبة لتلك العائلات إذا ما أضيفت إليها ملحقات الوجبة من بهارات وخضار فضلاً عن وسيلة الطهي غير المتوفرة لديهم في ظل ارتفاع أسعار الأخشاب، وعدم توفر دخل يومي لتلك العائلات التي تعيش تحت "رحمة طعام التكيات".
بمجرد وصول إعلاو إلى خيمتها، تتجمع العائلة المكونة من ستة أفراد أمام الطبق. لم يعد أطفالها يسألون عن نوعية الطعام المقدم، إذ يعرفون أنه أحد الأصناف الأربعة المعتادة. يجبرون على تذوقه مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع. ويقول طفلها أكرم بعفوية: "والله معدتنا تعبت من هيك أكل، لكن الحمد لله أنه فيه (يوجد) طعام نأكله".
توقف طعام التكيات أو انقطاعه ليوم واحد يعني حرمانها من وجبة الطعام الوحيدة، وهذا ما حدث في مرات عدة، حين عجزت الأم عن اللحاق بموعد توزيع الطعام وعادت بطبق فارغ لأولادها.
في رحلة نزوح استمرت لمدة عام، نزحت العائلة من حي التفاح بمدينة غزة إلى حي النصر الواقع غرب المحافظة، وقد تعرض لاجتياح بري من قبل جيش الاحتلال، ما اضطرها للنزوح إلى محافظة رفح جنوب القطاع حيث اعتمدت بالأساس على طعام التكيات الخيرية.
لا تملك إعلاو غاز طهي ولا أسطوانة غاز، كما لا تستطيع طهي الطعام على الحطب. الوجبة اليومية التي ستعدها بالطهي على النار ستكلفها أجرة زوجها على مدار شهر كامل، وهو أمر يفوق قدرتها المالية. أما بصل، فتقول لـ "العربي الجديد"، وهي تقف أمام خيمتها التي تعرضت للغرق من جراء مياه الأمطار قبل يومين: "الوضع المعيشي صعب. نضطر للذهاب لإحضار طعام التكيات كي نطعم الصغار".
تردف بعفوية وهي تمسك بأطراف أصابعها قماش خيمتها الممزق: "عيشتنا على قدنا والحمد لله. فطورنا فقط زعتر وأحياناً فلافل، بالإضافة إلى طعام التكية". وبسبب غياب أدنى مقومات الحياة، تضطر الجارتان لغسل الأواني والأطباق بمياه البحر لعدم توفر مياه الآبار في تلك المنطقة إلا من خلال شاحنات توزيع المياه. ولا تملك عائلات القدرة على شراء مواد التنظيف المرتفعة السعر، وليس لديها إلا غالونات صغيرة تجعل مياه البحر المالحة ملاذها لغسل الأواني".
وفي مشهد يومي متكرر، تجلس كل واحدة منهما برداء الصلاة في مياه البحر لتنظيف الأواني من خلال مسحها برمال البحر ثم غسلها. تبتسم بصل على واقع الحال، وتقول: "أصحاب التكيات الخيرية حفظونا عشان (لأننا) بنروح (نذهب) كل يوم".
كحال بقية الأطفال، يطالبها أولادها بأن تضيف صنفاً من اللحوم لطعامهم، لكن الظروف الصعبة تجعل بصل عاجزة أمام أولادها. تضيف: "الأولاد يرغبون بأشياء كثيرة، لكن قدرتنا المالية لا تسمح. مرة كل شهر أو شهرين، نلبي طلبهم من خلال إحضار طعام أفضل بعد تبرع أهل الخير".
أفضل من المجاعة
ترى بصل التي عاشت المجاعة في مدينة غزة، أن "طعام التكيات أفضل بكثير من المجاعة"، مستذكرة تلك الأيام التي تتمنى ألا تعود: "استمرت المجاعة أربعة أشهر وكان الوضع صعباً. كان أبنائي يبكون من الجوع، وكنا نعد طعام المهلبية (مزيج من الحليب والماء والنشاء) أو حساء الأرز. وكان سعر كيلو الطحين 150 شيكلا (42 دولاراً) ولا نستطيع شراءه. حتى أننا نسينا الخبز طوال تلك المدة".
بسبب الجوع، نزحت العائلة في نهاية مارس/ آذار 2024 عن مدينة غزة، وسارت في رحلة محفوفة بالمخاطر والخوف والقلق سيراً على الأقدام من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثانية بعد الظهر. وصلت إلى الجنوب لكن الطعام لم يكن متوفراً. وبعد كل ما عاشته، تقول إن "التكيات أفضل من المجاعة إلى أن يأتي الفرج".
لا تخلو أبواب التكيات من مشهد اصطفاف الأطفال في طابور طويل، كل طفل يحمل طبقاً فارغاً بانتظار العودة به ممتلئاً لعائلته. بعض الآباء يفضلون إرسال أولادهم تجنباً لـ "الحرج أو من باب الاستعفاف" من الوقوف في طابور لانتظار وجبة غذاء. ويتحمل الأطفال مسؤولية يومية تضاف إلى مجمل المهام اليومية التي يتشاركونها، هم الذين يحرمون من عيش طفولتهم في ظل الحرب والفقر والجوع.
كانت الساعة العاشرة والنصف عندما قدم الطفل عبد الله (12 عاماً) إلى تكية بذور الخير الواقعة على شاطئ بحر خانيونس، تحيط بها عشرات آلاف الخيام. لكنه وجد جميع قدور الطعام الخمس وقد نفدت. عاد إلى خيمته القريبة من المكان بملامح حزينة، وهو ما شعر به بشار (13 عاماً)، الذي ظل يتفقد جميع الأطباق محاولاً العثور على بقايا طعام. يعيش مع والده العاطل عن العمل وأشقائه الثلاثة فيما استشهدت والدته خلال الحرب. بالتالي، حكم عليهم بإمضاء يوم من دون طعام.
يقول بشار، وهو يرتدي ملابس بالية ووجهه شاحب ويحمل طبقه الفارغ، لـ "العربي الجديد": "لا أعلم كيف أعود. أشقائي ينتظرون عودتي لتناول الطعام. إلا أننا لن نأكل".
يعيش هذا الطفل في خيمة لا سقف لها، بعد تمزق سقفها القماشي من حرارة الشمس. هو وأشقاؤه لا يملكون إلا قطعة أو قطعتين من الملابس، ويغتسلون بمياه البحر، ويعيشون فقراً شديداً، ولا يأكلون إلا من طعام التكيات، كحال عشرات الأطفال والرجال الذين جاؤوا إلى المكان ووجدوا الطعام قد نفد.
بسبب الجوع، لم تستطع الطفلة لميس التي جلست وصديقتها على جانبي التكية العودة إلى خيمتهما قبل تناول بعض الطعام. كما أن والد هذه الطفلة عاطل عن العمل ويعيش كباقي العائلات في فقر شديد.
إغلاق متكرّر
وفي ظل غياب الدعم، فوجئ الكثير من النازحين بإغلاق العديد من التكيات الخيرية أبوابها بشكل مفاجئ بعد فترة من الاعتماد عليها من قبل النازحين. وبملامح ممزوجة بالاستياء، دخل السبعيني أبو رامي التكية يبحث عن تأكيد لما يتناقله النازحون عن عزم أصحاب التكيات تخفيض أيام العمل إلى ثلاثة أيام أسبوعياً، وهو ما أكده أصحاب التكية.
يقول لـ "العربي الجديد": "قبل أيام، أغلقت تكية كبيرة أبوابها. نعتمد بعد الله على ما تقدمه من طعام لأننا نعيش في قاع الفقر ولا نستطيع إعالة أنفسنا. فأين سنذهب لإحضار الطعام؟". سيضطر أبو رامي للسير بضعة كيلومترات أخرى للوصول إلى مكان تكية خيرية تقع في منطقة معروفة باسم العطار بمواصي خانيونس، رغم أنه بالكاد يستطيع المشي بسبب حالته الصحية.
وما زاد من معاناته أنه منذ أربعة أشهر على نزوحه من محافظة رفح، لم يحصل على مساعدات إغاثية. ومنذ خمسة أشهر، يغلق الاحتلال الإسرائيلي معبر رفح الذي يحتله، ويمنع إدخال المساعدات الطبية والإغاثية لقطاع غزة، الأمر الذي أدخل عشرات آلاف الأسر في حالة فقر شديد. "حيصير مجاعة بالمخيم"، يقول أحد العاملين بالتكية، تعليقاً على حالة الاستياء التي سادت بين صفوف النازحين داخل مركز الإيواء مع تخفيض أيام عمل التكية.
ويطالب صاحب التكية نبيل أبو رجيلة، المؤسسات الدولية بدعم تكيات الطعام المنتشرة بين خيام النازحين حتى تزيد من عدد الوجبات المقدمة للنازحين. ويشير في حديثه لـ "العربي الجديد" إلى أنه أنشأ التكية قبل 250 يوماً، بتبرع من فاعلي خير من خارج فلسطين، وكانت نقطة الانطلاق الأولى في المخيم الإقليمي جنوبي المواصي. ومع استهداف المنطقة من جيش الاحتلال، انتقل للغرب.
من الساعة السادسة صباحاً وحتى 11 ظهراً، يعد فريق مكون من عدد من العاملين الطعام على خمسة أطباق كبيرة (قدر) تكفي لإطعام 200 أسرة وقد يزيد الأمر عن ذلك. ويعزو سبب تخفيض العمل إلى غياب التمويل، كونها غير مدعومة من مؤسسات دولية. ويقول أبو رجيلة إن عشرات الآلاف من العائلات، خصوصاً التي نزحت من شمال القطاع، لا تملك غازاً للطهي ولا حتى المال. بالتالي، أجبرتها الظروف على القدوم إلى التكيات.