تأثرت تركيا بعد إلغاء الخلافة وتأسيس الجمهورية عام 1923 بطبائع الغرب، جراء تغيير الوجهة من الشرق العربي الإسلامي إلى الغرب، واندثرت اللغة العربية مع منع تعليمها وعدم السماح برفع الأذان في الجوامع. وهما عادا في منتصف القرن العشرين خلال فترة تسلم عدنان مندريس رئاسة الحكومة، قبل أن يغيبا مجدداً بعد إعدامه.
لكن كتب التاريخ والباحثين ما زالوا يتفاخرون حتى اليوم بالعلماء والمفكرين العرب الذين جذبتهم الدولة العثمانية في القرن الأخير من توليها السلطة، وبينهم العالم في اللغة العربية وآدابها محمد محمود بن أحمد بن محمد التركزي الشنقيطي، الذي وصلت شهرته ومكانته إلى مخالطة السلاطين، وأحدهم السلطان عبد الحميد قبل أن يختلف معه في شأن تمثيل الدولة العثمانية خلال مؤتمر المستشرقين الثامن في استوكهولم عام 1889.
وداعاً "أرابجا يوك"
والحقيقة أن تركيا ظلت حتى ما قبل العقد الأخير من الزمن شبه جاهلة باللغة العربية، وعانى من لجأ إليها بعد ثورات الربيع العربي عام 2011 من عبارة "أرابجا يوك"، التي تعني "لا أتكلم اللغة العربية"، قبل أن تعود لغة الضاد للحضور والتمدد في الشوارع والمعاهد وحتى الجامعات.
وهكذا لم يملك مدير شركة "ياشام" السياحية، محمود آيدن، إلا خيار تعلم اللغة العربية لتحقيق هدف التميّز والاستمرار في السوق، الذي يستقبل سنوياً عشرات الملايين القادمين من المنطقة العربية، علماً أن تركيا تضم أيضاً أكثر من 5 ملايين عربي، وباتت السياحة في بعض المناطق ذات "وجه عربي" بالدرجة الأولى، وبينها مدن البحر الأسود وبورصة وإسطنبول. وأمام الأعداد الكبيرة للعرب، لا بدّ من تكلم لغتهم. ويقول آيدن: "معظم العرب يجيدون الإنكليزية، في حين نعاني كأتراك من فقر في اللغات"، مشيراً إلى أن المثل الشائع في تركيا هو أن "لغتين يعنيان إنسانين، وقد تبدل واقع الحال بتركيا، خاصة في الأسواق، ففي الفترة الأولى لقدوم العرب، قبل عشر سنوات، كان الغالب الاستعانة بمترجمين في المحال والشركات والمصارف، لكن مع مرور السنين وتزايد الحاجة، تعلّم الأتراك العربية في معاهد وجامعات. واليوم قد لا يخلو محل تجاري أو شركة ومصرف من وجود أتراك يجيدون العربية، أو عرب حصلوا على الجنسية التركية من السوريين خصوصاً".
إقبال وبعض الرفض
وتقول الأستاذة الجامعية التركية فائزة غل لـ"العربي الجديد": "تعلمت اللغة العربية كي أزيد فرصي وأعزز سيرتي الذاتية، بعدما افتتحت شركات عربية كبيرة عدة فروعاً لها في تركيا، كما أن أعمالاً كثيرة في تركيا باتت تتطلب اللغة العربية، سواء في مديريات الأمن والهجرة والمصارف والشركات السياحية والتجارية.
وتلفت إلى "صعوبة اللغة العربية وقواعدها، لكن يمكن تعلم الأساسيات، خاصة بوجود كلمات مشتركة كثيرة، والمعاهد والجامعات التي تعلم العربية تتوفر في تركيا اليوم، في حين كان يضطر التركي سابقاً إلى الذهاب إلى دول عربية. وقد تعلمت صديقاتي العربية في معهد بمنطقة المزة في دمشق، ولغتهن جيدة لأنهن عشن فترة هناك. وأساس اللغة المخالطة والالتزام بالتحدث بها".
وتنبه إلى أن "الإقبال على تعلم العربية، في ظل التقارب التركي - العربي والحاجة المحلية إلى ذلك، تقابله ردود أفعال رافضة، خاصة من فئة الشباب المتأثرين بحملة الأحزاب المعارضة التي تحمّل اللاجئين والعرب مسؤولية تدهور الاقتصاد، وكذلك بالعقائد التي تربط العرب بخسارة العثمانيين الحرب العالمية الأولى".
"انقلاب الحال"
ويرى معلم اللغة العربية المقيم في إسطنبول حمدي مصطفى، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "أسباب تعلم الأتراك اللغة العربية متعددة، وتتعلق بالعمر والعمل وحتى التوجه الديني والسياسي، إذ لا يمكن فصل توجه حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 2002 نحو الشرق عن الموضوع، كما لا يمكن تجاهل السبب الاجتماعي المرتبط بإقامة ملايين العرب في تركيا، وكذلك السبب الاقتصادي باعتبار أن العرب أنشأوا أعمالاً وشركات في تركيا، وهم ربما من أكثر السياح والقادمين".
ويتحدث عن أن "تركيا غيّرت أيضاً نهجها ونظرتها إلى اللغة العربية، فبعدما كان استخدامها ممنوعاً طوال عقود تلت تأسيس الجمهورية، أدخل حزب العدالة والتنمية اللغة العربية إلى المدارس مجدداً عبر حصة لغة وأربع حصص دين تتضمن السيرة والفقه والقرآن والحديث، ما دفع المدارس إلى التعاقد مع معلمين عرب في البداية، قبل أن يتخرج بعض الأتراك من جامعات تُلقن معظم موادها باللغة العربية".
ويؤكد مدير معهد "المعرفة" لتعليم اللغات في حي الفاتح، أمير حسن، لـ"العربي الجديد"، ما يصفه بـ"انقلاب الحال"، ويقول: "في بداية قدوم العرب إلى تركيا بعد ثورات الربيع العربي، جرى التركيز على تعلم التركية، ثم بدأ تعليم اللغة العربية في المعاهد قبل سنوات، وشهد إقبالاً جيداً.
وحول الفئة العمرية التي تقبل على تعلم العربية والأسباب، يشرح حسن أن "متوسطي العمر يشكلون الفئة الأكبر"، معتبراً أن "الدافع الروحي لفهم الدين والقرآن هو السبب الأهم، لكن شركات سياحية وتجارية ومصارف تركية باتت تشترط أيضاً إجادة العربية لقبول الموظفين، ومدارس الإمام الخطيب، التي تشرف عليها الحكومة، تعاني من ضعف في المناهج وكوادر التدريس، خاصة بعد إدخال مدرسين أتراك لتعليم العربية ودروس الدين، فاللغة العربية صعبة جداً، ولا تمكن إجادتها خلال أشهر للسماح للمتعلم بالتعليم".
مناهج وتطوير
ويقول رئيس قسم اللغة العربية في جامعة غازي بالعاصمة أنقرة، محمد حقي صوتشين، لـ"العربي الجديد": "تختلف الفترة الحالية على صعيد قبول اللغة العربية وتعلمها في تركيا، وحتى قبل عشر سنوات، لم تكن تتوفر أي مناهج باللغة العربية، وكان أشخاص غير كفؤين وغير مؤهلين يدرسون العربية. لكن أخيراً وضعت مناهج للعربية من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية. وقد ترأست شخصياً لجنة ضمن وزارة التربية التركية أعدت مناهج العربية لكل المستويات وأنواع الطلاب في ثانويات عالية وأئمة وخطباء. وتلا وضع هذه المناهج تدريب مدرسين في أنحاء تركيا، ثم وضع كتب مدرسية للأئمة والخطباء والمرحلة الابتدائية، ما سمح بتطوير الكتب المدرسية وتدريب المعلمين، وصولاً إلى حصول طفرة في الكمية والنوعية المرتبطة بتعليم اللغة العربية، وصولاً إلى الجامعات التي تضم أقساماً للغة العربية".
ويشير إلى أن "المناهج تركز على مهارات العربية في الاستماع والكتابة والمحادثة، وأخرى جانبية مثل القواعد والثقافة العربية. وبين الأقسام المهمة الترجمة من العربية إلى التركية والعكس، وهي جديدة تتضمن تدريس ترجمة الأخبار، والمعلومات الصحية والسياحية والقضائية لغير المتخصصين بالعربية، الذين يتعلمونها كلغة وسيطة للوصول إلى مصادر معلومات عربية وإسلامية وتراثية".
ويؤكد أن تعليم اللغة العربية وانتشارها تطورا كثيراً مقارنة بالسابق، لكن ما زالا دون المستوى المنشود إذا جرت المقارنة بتدريس اللغة الإنكليزية مثلاً، سواء على صعيد الانتشار أو تطوير الأساليب والإمكانات المتوفرة في الإنترنت، لأن اللغة العربية تفتقر إلى هذه المصادر، ويصعب إيجاد خطط دراسية لها، ما يزيد العبء على المدرّس خلال إعداد ورقة العمل والمهام".
وقد افتتحت جامعات تركية حكومية أقساماً لتدريس تخصصات باللغة العربية، منها جامعة ماردين، التي يقول أستاذ التاريخ فيها مهنا بلال الرشيد، لـ"العربي الجديد"، إن "الجامعة تدرس منذ عام 2015 خمسة تخصصات باللغة العربية، هي التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والتجارة والتمريض، إضافة إلى الشريعة التي تعطى دروسها باللغتين التركية والعربية".
يضيف: "يدرس الطلاب الأتراك سنة لغة عربية تحضيرية قبل الالتحاق بالأقسام، والجامعة تضم طلاباً من العرب، فيما يعتبر إقبال الأتراك لافتاً خاصة على أقسام الشريعة والتاريخ".
وحول مستقبل اللغة العربية في تركيا، يشير الرشيد إلى ما وصفه بـ"صحوة تركية"، خاصة خلال العقد الأخير بعد التقارب العربي التركي والتخلص من عبء السياسة وتصويب التاريخ، معتبراً أن كل أشكال الاحتياجات الدينية والاقتصادية والمعرفية اجتمعت لتعيد العربية إلى التداول في تركيا.
بعد 200 عام
ويرى رئيس جمعية الفنانين الأتراك في المهجر توران قشلاقجي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "الشارع التركي يناقش منذ نحو 200 عام كيفية تعلم اللغة العربية بطريقة جيدة، وزادت هذه النقاشات مع ابتعاد المجتمع عن التقاليد، وتأثير الغرب. ونشرت العديد من الصحف والمجلات تقارير نقاشية ومقالات تسلط الضوء على فشل حلقات العلم والمدارس في تعليم اللغة العربية بشكل مثالي".
ويعتبر أن "الكتب والمدارس وكوادر تدريس اللغة العربية ما زالت دون الطموح، إذا لم نقل إنها سيئة قياساً بتعليم اللغات الأجنبية، لكن ثمة صحوة في الشارع التركي اليوم غلبت القناعة الراسخة لفترة طويلة بعدم قدرة الأتراك على تعلم اللغات عموماً والعربية خاصة. ومنذ أيام الرئيس توركوت أوزال، أي قبل تولي حزب العدالة والتنمية السلطة، بدأ تعليم العربية يعود عبر مراكز ومدارس الإمام الخطيب، ثم تعززت خلال عهد رئيس الوزراء عدنان مندريس، وتوسع أكثر خلال العقد الأخير".
ويضيف أن "اللغة العربية باتت الثانية في تركيا اليوم، وسبقت الكردية، استناداً إلى الإقبال على تعلمها، ووجود أشخاص ذوي أصول عربية في ولايات سيرت ومرسين وعنتاب وهاتاي وأورفا. كما زاد الانتشار بعد وصول الأخوة العرب خلال العقد الأخير".
ويذّكر قشلاقجي بماضي العربية في تركيا منذ القرن التاسع عشر، وأيام "ابراهيم أفندي" ودار التعليم، قبل أن تتوصل نقاشات تعليم اللغة العربية، بعد انهيار الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية، إلى إلغاء تعليم اللغتين العربية والفارسية في المدارس، وتفرض إلزامية تدريس اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية. ويقول: "خلال فترة قريبة من الحرب العالمية الثانية، درّس المستشرق الألماني د. ريشر الأدب العربي، وقدم مستشرق ألماني آخر يدعى د. ريتر دروساً في اللغة العربية للطلاب الأتراك، أما اليوم، فنرى كليات اللغة العربية وآدابها في العديد من الجامعات التركية، التي لم تعد تخلو أيضاً من الطلاب الأتراك الذين يتقنون العربية جيداً، والأساتذة العرب القادمين من دول عربية مختلفة، وأصبحت اللغة العربية بين الدروس التي يقدمها العديد من الأوقاف الخاصة في عموم البلاد. وهكذا نجح الأتراك في تعلم اللغة العربية بعد 200 عام.