شمال غزة يجوع... فلسطينيون مهدّدون بكارثة حتمية

16 يونيو 2024
يعيش أطفال شمال غزة المعزول على ما توفّره المنظمات لهم، يونيو 2024 (محمد الحجار)
+ الخط -
اظهر الملخص
- شمال قطاع غزة يواجه أزمة إنسانية حادة بسبب الحرب الإسرائيلية، مع تحذيرات من مجاعة وشيكة ونقص حاد في المواد الغذائية بسبب العزلة والقيود على دخول المساعدات.
- أكثر من 3500 طفل مهددون بالجوع والموت بسبب سوء التغذية، مع تزايد أعداد المصابين في المستشفيات وعجز الأمم المتحدة والمنظمات الدولية عن إدخال الغذاء بسبب القيود الإسرائيلية.
- الوضع الإنساني المتدهور يدفع السكان إلى اليأس، مع قصص مؤلمة عن البحث عن الطعام ومعاناة الجوع، وتكشف الشهادات من داخل غزة عن مأساة إنسانية تدعو إلى تحرك دولي عاجل لإنهاء الحصار.

حلّ عيد الأضحى في وقت يجوع فيه الفلسطينيون العالقون شمالي القطاع

عدد الأطفال الفلسطينيين المهدّدين بسبب الجوع أكثر من 3 آلاف و500

وكالات الأمم المتحدة والمنظمات عاجزة عن إدخال الغذاء إلى الشمال

مع عزل شمال غزة عن سواه من مناطق القطاع المحاصر والمستهدف منذ أكثر من ثمانية أشهر، يجوع الفلسطينيون. وتحذّر جهات أممية ودولية من مجاعة تهدّد هؤلاء، ولا سيّما الأطفال وكبار السنّ. بعدما كثرت التحذيرات من "مجاعة حتمية" في شمال قطاع غزة، في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024، وسط الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فقد تراجعت وتيرتها قليلاً قبل أن تبرز من جديد مخاوف في هذا الإطار في الآونة الأخيرة.

في الشمال الذي عُزل عن بقيّة أنحاء قطاع غزة والذي يضمّ محافظتَي غزة وشمال غزة، حلّ عيد الأضحى في وقت يجوع فيه الفلسطينيون العالقون هناك. فالمواد الغذائية عادت لتنفد، ولا سيّما مع تحكّم سلطات الاحتلال بكلّ ما يُسمح بدخوله إلى القطاع، وبالتزامن مع العملية البرية التي تنفّذها قوات الاحتلال في رفح منذ أكثر من شهر والتي أدّت إلى إقفال المعبر الواصل بين أقصى جنوبي قطاع غزة ومصر. يُذكر أنّ المساعدات الإنسانية المخصّصة للفلسطينيين في القطاع، سواء في شماله أو جنوبه أو وسطه، كانت تدخل من خلال هذا المعبر.

وتشير بيانات إلى ارتفاع أعداد الأطفال الفلسطينيين المهدّدين على خلفيّة الجوع في قطاع غزة كلّه، إلى أكثر من ثلاثة آلاف و500 طفل. ويواجه هؤلاء خطر الموت بسبب سوء التغذية ونقص الحليب والمواد الغذائية التي يحتاج إليها الأطفال في مختلف أنحاء القطاع، وذلك بحسب ما بيّنته أرقام مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح (وسط) ومجمّع ناصر الطبي في خانيونس (جنوب) ومستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا (شمال).

الصورة
فلسطينيون وجوع في قطاع غزة 2 - يونيو 2024 (محمد الحجار)
وجبات ساخنة لمهجّرين فلسطينيين في شمال قطاع غزة، يونيو 2024 (محمد الحجار)

وتتركّز النسبة الكبرى من الأطفال الجائعين في شمال غزة بالتزامن مع عجز وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختلفة عن إدخال الغذاء إلى المنطقة، بما في ذلك وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). فقد أفادت الوكالة، عشيّة أوّل أيام عيد الأضحى، بأنّ الفلسطينيين في شمال قطاع غزة ما زالوا يواجهون مستويات استثنائية من الجوع، مع استمرار القيود الإسرائيلية على المساعدات. يأتي ذلك في غياب المراكز الصحية أو الطرق الآمنة لإدخال المساعدات إلى الشمال، إلى جانب حاجة نحو 50 ألف طفل إلى العلاج بسبب سوء التغذية.

لم يتوقّف مستشفى كمال عدوان عن استقبال الأطفال الذين يعانون سوء التغذية وتبعاته، حتى في أوّل أيام العيد. ففي ظلّ الحصار الذي يفرضه الاحتلال وحربه المتواصلة، تتشابه الأيام وكذلك الظروف. ومن بين الأطفال الذين أُدخلوا إلى المستشفى، صغار تناولوا أطعمة غير مأمونة وأُصيبوا بالتالي بمشكلات معوية. وسعي الفلسطينيين إلى تأمين أيّ غذاء ممكن لأبنائهم يجعلهم يغضّون الطرف عن مصدره وسلامته، وبالتالي التزوّد بكلّ ما يقع في متناولهم.

مؤمن أبو فول البالغ من العمر خمسة أعوام من بين هؤلاء الأطفال الذين أُدخلوا إلى المستشفى، بدلاً من اللعب مع رفاقه الصغار في أوّل أيام العيد. تخبر والدته إسراء "العربي الجديد" أنّ الصغير لم يتناول الحليب منذ نحو شهر، في ظلّ العملية العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت مخيّم جباليا. ولا تذكر الوالدة أنّها رأت علبة حليب واحدة في إطار المساعدات المحدودة التي اُدخلت منذ ذلك الحين، علماً أنّ تلك المساعدات صارت تقتصر أخيراً على دقيق القمح. وهكذا أُرهق مأمون من جرّاء تناول الخبز فقط.

تضيف إسراء لـ"العربي الجديد" أنّ "طفلي وأطفالاً آخرين كثيرين دخلوا إلى المستشفى وهم في حالة سيئة، وهم يتلقّون علاجاً بالمحاليل الملحية من أجل تعويضهم بعدد من العناصر التي خسرتها أجسادهم". وتؤكد أنّ "في الوقت نفسه، نشعر بالجوع أنا وطفلي وزوجي وعائلتي وكلّ أهالي شمال غزة وإن اختلفت قدرة كلّ واحد منّا على التحمّل".

تكمل إسراء أنّ "المشكلة تكمن في الفترة التي تلي علاج طفلي وعلاجات الأطفال الآخرين واستقرار حالاتهم. فلا بدّ لهم من الحصول على طعام مغذّ، وهذا أمر غير ممكن في ظلّ عدم توفّر الغذاء في شمال غزة". تلفت الوالدة الفلسطينية إلى أنّ "كلّما مرّت أيام أكثر ازدادت أجسادنا هزالاً. طفلي في حاجة إلى حليب، وقد بحثت كثيراً عن ذلك من دون جدوى. ومن شدّة ما بحثت، نسيت أنّني جائعة بدوري".

يُذكر أنّ جيش الاحتلال أعلن أمس الأحد، صباح أوّل أيام عيد الأضحى، عن "هدنة تكتيكية" في رفح الواقعة أقصى جنوبي قطاع غزة، على امتداد محور فيلادلفيا فقط، يومياً ما بين الساعة الثامنة صباحاً والسابعة مساءً، وذلك بهدف نقل المساعدات الإنسانية من معبر كرم أبو سالم الذي يقع إلى شرق رفح، والذي يسيطر عليه الاحتلال بالكامل وعلى كلّ الطرقات المؤدية إليه. لكنّه لم يوضح مصير شمال غزة الذي لم يسمح بإدخال الغذاء إليه.

الصورة
فلسطينيون وجوع في قطاع غزة 3 - يونيو 2024 (محمد الحجار)
ينقل الأطفال الفلسطينيون لعائلاتهم الوجبات المقدّمة التي بالكاد تكفيهم، يونيو 2024 (محمد الحجار)

في سياق متصل، تترقّب الستينية حسنية فرج، في حيّ الشيخ رضوان بمدينة غزة، إدخال المساعدات إلى الفلسطينيين المعزولين في الشمال، فتقصد يومياً أحد مراكز توزيع المواد الإغاثية لعلّها توفَّق ببعض منها. وحسنية التي استشهد ابنها البكر في خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة وأبناؤه الأربعة، ما زالت تعيش مع اثنَين من أبنائها وأحفادها، وتحاول الإسراع للحصول على مساعدات، آملةً أنّ يقدّر المعنيون كبر سنّها ويمنحوها المساعدات من دون الانتظار ساعات.

وتقول حسنية لـ"العربي الجديد": "استيقظنا اليوم (أمس الأحد) على التكبيرات، آملين أن يستجيب الله لدعائنا، فيُصار إلى إدخال الطعام لنا وننجو من الموت جوعاً"، مضيفةً "نحن نعيش كذبة كبيرة مفادها أنّنا والمسلمين إخوة وأنّنا والعرب إخوة. فنحن نعيش حالة خذلان كبيرة". وتشير المرأة الستينية إلى أنّ "قبل العدوان، لم نكن نجوع. كنّا نقول دائماً إنّنا لا ننام ونحن جياع، لكنّنا في هذا العدوان ندهب إلى النوم ونحن جائعون". وتكمل أنّ "لا شيء يسترنا من القصف. والنساء انتُهكت كراماتهنّ وحقّهنّ الإنساني، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأطفال والشيوخ"، مشدّدةً "نحن نموت ببطء في الوقت الراهن. وحتى لو متنا من الجوع، فإنّ كرامتنا لن تموت. ولعلّ العرب يتعلّمون من دروس غزة".

صحيح أنّ سلطات الاحتلال سمحت بإدخال دقيق القمح دون سواه من مواد غذائية إلى شمال غزة المحاصر، إلا أنّ كثيرين لا تصل إليهم أكياس الدقيق. الفلسطيني محمد خطاب واحد من هؤلاء، ويعيش حالياً في منطقة تقع ما بين حيّ الصفطاوي ومخيم جباليا، يشير إلى أنّ الكميات التي تُوزَّع في نقاط محدودة لا يحصل الجميع عليها بالتساوي، فهي محدودة، وهو مضطر بالتالي إلى البحث عن الخبز يومياً.

ويخبر محمد "العربي الجديد" أنّه في خلال موجة الجوع الأولى في شمال غزة الذي عُزل عن بقيّة مناطق القطاع المحاصر، "تناولت الخبز المعدّ بعلف الحيوانات وكذلك ورق الأشجار مع الملح. واليوم، في موجة الجوع الجديدة، يبدو الأمر أكثر صعوبة، فنحن لم نخزّن أيّاً من المواد الغذائية التي كانت تدخل من ضمن المساعدات السابقة". يُذكر أنّ تلك المساعدات كانت في الأساس ضئيلة جداً. ويرى محمد أنّ "الناس في خارج قطاع غزة فقدوا الإحساس فينا"، متحدّثاً عن "شائعات نشرها الاحتلال الإسرائيلي مفادها أنّ سلطاته سمحت بإدخال بضائع إلى المنطقة قبل أكثر من شهر وأنّنا ننعم بالأطعمة. لكنّنا لم نحصل في الواقع إلا على كميات نستهلكها، من دون أن تكون كافية للتخزين. واليوم، يتشاجر الناس في الشوارع، بعضهم مع بعض، للحصول على الطعام ويتسابقون على ذلك".

وتشير مصادر طبية إلى أنّ أعداد شهداء الجوع في قطاع غزة على أرض الواقع أعلى من تلك التي وصلت إلى المستشفيات. ويقدّر طبيب الطوارئ محمد مهدي عدد الأطفال الذين لقوا حتفهم نتيجة الجوع بنحو 40 طفلاً، مضيفاً أنّ أعداد الوفيات بسبب سوء التغذية بين الأطفال وكذلك كبار بين السنّ سُجّلت بمناطق في شمال غزة، عجز الفلسطينيون فيها عن الوصول إلى المستشفيات، خصوصاً في الشهر الأخير". ويؤكد مهدي لـ"العربي الجديد" أنّ "المواد الغذائية لم تدخل إلى الشمال لمدّة تخطّت الشهر الواحد، وراح الناس يستهلكون أيّ طعام يتوفّر أمامهم. وقد تناول عدد من بينهم أطعمة فاسدة، نظراً إلى عدم توفّر وسائل تخزين الطعام بصورة سليمة وكذلك في ظلّ ارتفاع درجات الحرارة". ويتحدّث عن "جوع كارثي في الوقت الراهن، في المنطقة الشمالية بالكامل، وهو ما يهدّد بوفيات، في مقدّمتها أطفال".

وكانت المديرة الإقليمية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أديل خضر، قد أشارت إلى الصور التي تصل إلى المنظمة من طواقم عملها المعنية بالأطفال، والتي تظهر مشاهد مروّعة تبيّن موت أطفال أمام أعين أسرهم بسبب نقص إمدادات الأغذية المستمرّ وتدمير خدمات الرعاية الصحية. من جهته، أفاد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة بأنّ المساعدات الغذائية لم تصل إلى نقطة اتفاق حتى لإدخال المتوافق عليه سابقاً، الذي كان في الأساس يُعَدّ ضئيلاً جداً وغير كافٍ.

المساهمون