وجد أصحاب مصالح وأرباب عمل في العاصمة السورية دمشق في عمل طالبات المعاهد والجامعات فرصة مثالية لخلق سوق عمل تحقق لهم مكاسب مادية كبيرة بشروط مناسبة وآمنة، مع إعفائهم من الالتزام بعقد عمل قانوني، وتوفير تأمين صحي للعاملات يغطي أيضاً الإصابات خلال العمل، وكذلك منحهن إجازات مرضية وسنوية.
تقول صفاء فخر، الطالبة في السنة الثالثة بكلية التجارة والاقتصاد، والتي تعمل ليلاً في فندق بدمشق، لـ"العربي الجديد": "لا أفعل ذلك للمرة الأولى، إذ سبق أن عملت أكثر من عام مندوبة مبيعات لحساب شركة تسويق أدوات تجميل نسائية، ثم بائعة بدوام مسائي في محل للألبسة الرجالية، ثم وجدت أن عملي الحالي الأنسب لي من أجل متابعة تحصيلي الجامعي".
تتابع: "لا أعمل بموجب عقد أو قانون يحكم العلاقة بيني وبين ربّ العمل، وهو الحال في معظم هذه المهن، وبالتالي، يبقى الكد والاجتهاد الشخصي الضامن الوحيد للاستمرار، والحصول على أجر أفضل".
أيضاً، وجدت سعاد زيدان، الطالبة في كلية الآداب، في شركة "دوبلاج" لمسلسلات الأطفال في قدسيا، غربي دمشق، فرصة لتحقيق أدنى حد من الاستقرار وتنمية موهبتها في أوقات عمل غير منتظمة، وبأجور شهرية تتراوح بين 250 و350 ألف ليرة سورية (35 و50 دولاراً) تسمح بدفع إيجار السكن الجامعي والمواصلات، وتوفير بعض تكاليف المعيشة. وتقول لـ"العربي الجديد": "أجد نفسي محظوظة مقارنة بزميلاتي العاملات أو الباحثات عن عمل، فبعضهن يتمسكنّ بالعمل بظروف قاسية ومهينة أحياناً في مطاعم وشركات ومراكز تجارية، حيث تخضع شروط العمل لمزاج المسؤول الإداري أو صاحب العمل وأخلاقه من جهة، ومن جهة أخرى، لأساليب تصرف رواد هذه الأماكن والزبائن. كما تقدم بعض العاملات في مكاتب خاصة تنازلات تجعلهن عاملات استقبال أو تنظيف أو مضيفات، كما قد يشاركن في ملاحقة معاملات إضافة إلى عملهن الرئيسي".
وخلال سنوات الحرب وبعدها، احتضنت دمشق وريفها أعداداً كبيرة من طلاب المعاهد والجامعات الوافدين من محافظات أخرى، خاصة الإناث اللواتي شكلن نسبة أكبر من الذكور لأسباب تعود إلى إشكالات الخدمة العسكرية والسفر والهجرة، وغيرها من نتائج الحرب.
وتمركزت غالبية الطالبات الوافدات في المناطق والمدن الأقل تكلفة للعيش والسكن، مثل المزة وبرزة وعش الورور والزاهرة والتضامن ودمّر وقدسيا وجرمانا وصحنايا، في وقت عجز السكن الجامعي عن استيعاب الأعداد الهائلة من الطلاب، ولم يوفر شروط السكن الجامعي الجيد عموماً، كما جرى التضييق على الطلاب غير الملتزمين بحزب البعث والمناسبات والاحتفالات التي يدعو لحضورها.
وتقول طالبة في السكن الجامعي بالمزة، طلبت عدم كشف اسمها، لـ"لعربي الجديد": "يصدم السكن الجامعي في دمشق الطالبات الحديثات في الجامعات، فهو بداية تحوّل من شكل منظم لحياتهن ضمن الأسر والأحياء والبلدات إلى حياة عشوائية يفتقدن فيها إلى الخصوصية وحرية التفكير والاختيار، فيتفاعلن مع تجارب زميلات أكثر قدماً منهن، وثقافات من مخلفات الحرب، والتي قد تتمثل في المعاناة من التشتت والضياع والخوف والتنازل والرضوخ والاكتئاب واليأس. وقد تبدأ الطالبات بالتالي في البحث عن الحد الأدنى من التحرر خارج السكن الجامعي، ما يزيد التكاليف عليهن، ويحتم قصدهن سوق العمل".
بدوره، يخبر محمد الظاهر، وهو صاحب مشغل للحّلي وأدوات الزينة في منطقة الكباس بدمشق، "العربي الجديد"، أن "عشرات من الطالبات الجامعيات من مختلف المحافظات السورية، خصوصاً من ريف دمشق وحمص والسويداء وطرطوس، عملن في مشغله خلال السنوات الخمس الأخيرة". ويشير إلى أنه منحهن غالباً أجوراً أسبوعية أقل من تلك التي تتقاضاها الموظفات الدائمات. وهذه الأجور تحددت بحسب ساعات العمل أو كميات الإنتاج من دون توفير ضمانات أو منح زيادات أو عطل، لأن معظمهن يعملن في شكل آني من أجل تلبية احتياجات مادية".
أما فادي مدرّي، الذي يملك كافيتريا في منطقة القصاع، فيرى في حديثه لـ"العربي الجديد" أن الطالبات هنّ الأكثر رغبة في العمل حالياً، وتفضل معظم المؤسسات تشغيلهن عن غيرهن من النساء وحتى الذكور، كونهن يتميزن بإتقان أعمال مثل الطهي والخدمة والنظافة، ويسهل التعامل معهن".
وبعد سنوات الحرب، غلب الطابع التجاري والخدماتي على الإنتاجي في سوق العمل في دمشق، الذي ضم شريحة أرباب عمل يشكلون أقلية، وشريحة الباحثين عن عمل، وهم أكثرية، وطغت الأعمال المكتبية والتجارية والخدماتية على معظم الحرف، حتى باتت مكاتب السمسرة والتوظيف والسفر وتعقيب المعاملات العامود الفقري للعاصمة.
وتقول المدرّسة لمياء رافع، التي تسكن في مدينة جرمانا بريف دمشق، لـ"العربي الجديد": لا يكاد يخلو محل تجاري أو مكتب محاماة أو هندسة أو عقاري أو عيادة طبيب من عاملة تكون غالباً طالبة في معهد أو جامعة. وإذا بحثنا في ورش ومشاغل ودور للخياطة والأزياء، نجد مدينة أخرى تحت الأرض تزدحم بمعظم الاختصاصات الجامعية".
تضيف: "ما يدفع إلى الحزن على جيل من الشابات أنهن دخلن إلى سوق العمل من بابه السيئ على حساب العمر والتحصيل العلمي والأحلام والطموحات. وهذا السوق الذي يحقق جزءاً من الاستقلالية المادية يسلب الشابات أحلام الحياة الجامعية، ويجعلهن يعتدن على الرضوخ والإذعان لشروط وقوانين وأخلاق رب العمل".