تثير أسماء سفن التنقيب عن الطاقة في تركيا، استغراب جميع من يسمعها، فهي لم تأخذ أسماء شركات أو تنتسب لمصنّعيها، بل التزمت جميعها بأسماء عثمانية تعود إلى من تعتبرهم تركيا أبطالاً ساهموا بالفتوحات أو الازدهار الذي شهدته السلطنة التي امتد عمرها نحو 600 عام، منذ أسسها عثمان الأول بن أرطغرل عام 1299، حتى أعلن الرئيس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية الأولى عام 1923. أولى وكبرى السفن التركية التي تنقب عن الطاقة، هي سفينة "الفاتح" وتنسب إلى السلطان العثماني السابع، محمد بن مراد الثاني، الذي ولد في أدرنه عام 1481 وتوفي عام 1481 عن 49 عاماً. ويلقب السلطان محمد بن مراد بالفاتح نسبة لفتحه عاصمة البيزنطيين، القسطنطينية، عام 1453، ويكنّى بأبي الخيرات، نظراً لزهده ومساعدة الناس وما يراه المؤرخون بحمله الخير من جراء الفتوحات، طوال أعوام حكمه الممتدة نحو ثلاثين عاماً. أما السفينة التي حملت اسمه، فهي أبرز سفن التنقيب التركية، ويبلغ طولها 229 متراً وعرضها 36 متراً، ودخلت الخدمة عام 2011. وتتميز السفينة المصنفة ضمن سفن الجيل السادس بامتلاكها تكنولوجيا عالية، وتعدّ من أفضل 5 سفن حول العالم تمتلك تلك التكنولوجيا الفائقة، وبإمكانها إجراء عمليات تنقيب حتى عمق 12 ألفاً و200 متر، وفي الأعماق ذات الضغط المرتفع.
ثاني السفن التركية حملت اسم "أوروتش رئيس" وهو شقيق البحارين المعروفين نجم الدين برباروس وإلياس برباروس، وهؤلاء الثلاثة كانوا من أشهر البحارة الأتراك، وكانوا يعملون في التجارة فيجلبون البضائع من المنطقة العربية إلى الأناضول. ويقول التاريخ إنّ أوروتش كان حالماً ويسعى لتوسع التجارة والاكتشاف، وحينما أبحر باتجاه أوروبا، واجهتهم قوات جزيرة رودس، واشتبكوا في معركة، قضى فيها إلياس، وأسر أوروتش 3 أعوام، ليعود بعد الأسر لمواجهة الأوروبيين. أما السفينة التي نسبت له، فهي ركيزة في قوة التنقيب التركية، إذ يمكنها إجراء جميع أنواع البحوث الجيولوجية، والجيوفيزيائية، والهيدروغرافية والأوقيانوغرافية، وفي مقدمتها أبحاث الجرف القاري، والموارد الطبيعية، إذ تحتوي على مختبرات جيولوجية وعلم المحيطات ومعدات يمكنها أخذ عينات أساسية من قاع البحر.
ويبلغ طاقم السفينة 55 فرداً، منهم 24 من البحارة و31 من الإداريين والباحثين.
اسم السفينة الثالثة "ياووز" أكثر أهمية، فتاسع السلاطين العثمانيين، سليم الأوّل هو ياووز سلطان سليم خان أول، الذي تولى الخلافة بعد أخيه يايزيد الثاني، سنة 1512، وكان أول سلطان عثماني لقب بأميرالمؤمنين، وهو من قاتل السلالة الصفوية في إيران وانتصر في المعركة الشهيرة "جالديران" وتميز عهده باتساع الفتوحات خصوصاً في الشام والمغرب العربي والعراق ومصر وصولاً إلى الحجاز، ليسلم خليفته بعد وفاته سنة 1520، سليمان الأول أكبر مساحة للإمبراطورية العثمانية بالشرق وعلى شواطئ المتوسط والأحمر. والسفينة التي حملت اسمه "ياووز" أي الجبار، هي الثانية بعد سفينة "الفاتح" التي بدأت البحث والتنقيب الأولي في القطاع البحري بولاية أنطاليا، وهي من أكبر 10 سفن لجهة اختصاصها حول العالم، إذ يمكنها الحفر حتى عمق 12 ألفاً و200 متر في عمق البحر.
ورابع السفن التي ذاع صيتها أخيراً، بعد اكتشاف تركيا الغاز في البحر الأسود، واستمرارها في التنقيب بالبحر المتوسط بالرغم من التوتر مع قبرص واليونان، والتهديد بالعقوبات الأوروبية، هي سفينة "القانوني" نسبة إلى السلطان سليمان الأول بن سليم الأول، الذي ولد عام 1494 وتوفي عام 1566، وهو عاشر السلاطين العثمانيين وثاني من حمل منهم لقب أمير المؤمنين. ويوصف القانوني بالأقوى والأكثر فتحاً، إذ إنّ الإمبراطورية في عهده وصلت إلى أقصى اتساع لها، حتى أصبحت أقوى دولة في العالم في ذلك الوقت، فهو لم يتوقف عن الحروب والفتوحات طوال حكمه الممتد 44 عاماً. وجرى تشييد سفينة الحفر "القانوني" وهي من الجيل السادس، عام 2012، بطول 227 متراً وارتفاع 114 متراً وعرض 42 متراً، لتنضم إلى مخزون شركة البترول التركية، قبل أن تدخل مجال التنقيب بحفر حتى 3000 متر وتكون داعمة لسفينة "الفاتح" في مهام البحث والتنقيب عن الغاز.
وحول جدلية أسماء السفن ودلالاتها، تعتبر المحللة، أوزاي بولوت، أنّ الغاية من انتقاء الأسماء، استفزازية ذات مغزى، لأنّ السفينة الرئيسية التي تستخدمها تركيا في عمليات المسح الزلزالي في الجرف القاري اليوناني هي "أوروتش رئيس" وهو اسم أمير بحر (1518- 1474) في عهد الإمبراطورية العثمانية كان يغير على سواحل إيطاليا وجزر البحر المتوسط.
وتضيف بولوت في تقرير، أنّ سفن التنقيب والحفر التي تستخدمها تركيا في المياه الإقليمية اليونانية تحمل أسماء سلاطين عثمانيين كانوا قد استهدفوا قبرص واليونان في غزوات عسكرية دامية. وتشمل هذه السفن سفينة الحفر "الفاتح" نسبة للسلطان العثماني محمد الثاني الفاتح الذي دخل القسطنطينية، وسفينة الحفر "ياووز" نسبة للسلطان سليم الأول، سلطان الإمبراطورية وقت غزو قبرص عام 1571، وسفينة "القانوني" نسبة للسلطان سليمان القانوني، الذي غزا أجزاء من شرق أوروبا وجزيرة رودس اليونانية.
لكنّ أستاذة التاريخ العثماني بمدرسة "هاتاتراك" سيهان بلوكجو تقول لـ"العربي الجديد" إنّ رمزية الأسماء تدلّ على استقلال تركيا، فتلك السفن وغيرها، كسفينة "خير الدين بربروس" و"أوروتش رئيس" هي صناعة محلية بالكامل، أو جرى شراؤها وإضفاء اللمسة والخصوصية التركية عليها، ما يبرر تسميتها بأسماء تركية ذات دلالات بطولية وتاريخية. وترى بلوكجو أنّ من حق بلادها أن تتفاخر بتلك الأسماء وتخلدها عبر أسماء السفن، كما تخلدها مع غيرها عبر أسماء مساجد وأحياء وشوارع. وتعلق قائلة: "قبل أعوام، افتتح الرئيس رجب طيب إردوغان جامعة ابن خلدون بإسطنبول، وهو تونسي وليس تركياً، فلماذا لا يجري ذكر أمور كهذه؟ وتجدر الإشارة إلى أنّ العلّامة عبد الرحمن بن خلدون، ولد في تونس عام 1332، وتوفي في القاهرة عام 1406، أي قبل نشوء إيالة تونس العثمانية (1574) بأكثر من قرن ونصف. وتعبر أستاذة التاريخ العثماني عن أسفها لتغيير المملكة العربية السعودية قبل أشهر، اسم شارع السلطان سليمان القانوني، إذ إنّه كما غيره من السلاطين العثمانيين "من الرموز التاريخية ليس لتركيا الحالية فقط، بل للمناطق التي كانت ضمن الدولة العثمانية ككلّ".