رمضان الجزائر... عادات وطقوس ولمّة إلى تلاشي
- التغيرات الديمغرافية والاجتماعية، مثل خروج المرأة للعمل وتغير النسيج الاجتماعي للأحياء، أدت إلى تراجع عادات مثل شراء وتقسيم الذبائح جماعيًا وتبادل الأطباق بين الجيران.
- الظروف الاقتصادية والتطورات التكنولوجية أثرت على تقاليد رمضانية، حيث باتت العائلات تفضل تزيين الشقق وقضاء السهرات أمام التلفزيون أو في صلاة التراويح، مما يعكس التحولات العميقة في المجتمع الجزائري.
تختلف العادات في رمضان الجزائر اليوم عما كانت عليه خلال سنوات مضت، في ظل التغيرات الاجتماعية والظروف الاقتصادية الصعبة، وباتت الطقوس فردية أكثر منها جماعية.
كثيرة هي العادات والطقوس المتوارثة خلال شهر رمضان في الجزائر، التي باتت اليوم طي النسيان أو أنها تتلاشى شيئاً فشيئاً. على سبيل المثال، انحسرت عادة طلاء المنازل احتفالاً بقدوم الشهر الفضيل، بالإضافة إلى تلميع أطباق النحاس، وتبادل أطباق الطعام بين الجيران، وتجمع النساء في أحد البيوت بغية قضاء سهرة رمضانية حول مائدة القهوة والشاي والحلويات التقليدية وغيرها. ولهذا التلاشي أسباب وعوامل مادية واجتماعية مختلفة.
قبل عقود، كانت العائلات الجزائرية تحضّر "عَوْلَة رمضان" أو المؤونة الخاصة بالطهي ولوازم المطبخ الجزائري، التي تضم مختلف التوابل و"المرمَز"، ويعرف في بعض المناطق بـ "الفريك" أي القمح المهشم الخاص بطهي الطبق الرئيسي على مائدة الإفطار. لكن النساء في الوقت الحالي يفضلن شراء الجاهز منها، وخصوصاً مع توفرها بشكل كبير وتعددها من دون الحاجة إلى تحضيرها يدوياً. ويرجع البعض اختفاء مثل هذه العادات إلى عوامل عدة، من بينها خروج المرأة إلى سوق العمل. وتقول الأستاذة في المرحلة الثانوية سمية بدران لـ "العربي الجديد" إن "غالبية النساء يحضرن لوازم الشهر الفضيل قبل أسبوعين أو ثلاثة، غير أن بعضهن يلجأن إلى شراء التوابل الجاهزة، تفادياً لعناء تحضيرها بالطرق التقليدية. وهذا التوجه يرجع إلى ضغوط الظروف اليومية. فالمرأة العاملة تنتظر أية فرصة للراحة، على الرغم من أن التحضيرات التي اعتادت عليها الجدات في الماضي كانت لها طعم خاص وتعطي للشهر الفضيل تميزاً عن بقية الأشهر، ناهيك عن أن الأجيال الجديدة باتت أقل حماسة للقيام بهذه العادات بسبب التطورات الاجتماعية".
ومن بين العادات التي تلاشت في غالبية المناطق الجزائرية، اشتراك الجيران في شراء ذبيحة واحدة وتقسيم لحمها في ما بينهم عشية شهر رمضان. وكانت العائلات، وخصوصاً في الأرياف، تتشارك ثمن الذبيحة وتقسّم لحمها، بما بسمح لكل عائلة بتوفير حاجتها من اللحم لكامل شهر رمضان. وبات واضحاً أن هذه العادة اختفت لكن بلدات قليلة جداً لا تزال تحافظ عليها في ما يعرف بـ "الوزيعة"، وإن كانت هذه عادة تكافلية وتضامنية من أجل الفقراء. ويعتقد أن تطور النسيج الاجتماعي وتغير ديمغرافية الأحياء السكنية نسبياً خصوصاً مع الأجيال الجديدة، لم يعد يتيح القيام بهذه العادة.
عادة أخرى تتراجع بعض الشيء مع تفرق جيران العمر، وقد ترك غالبيتهم الحي العتيق وتوجهوا نحو أحياء سكنية جديدة، ولم يعد الجار يعرف جاره في العمارة نفسها. وهذه عادة تسمى تبادل الصحون أو الأطباق، فترسل كل عائلة إلى أخرى طبقاً من الطعام الرئيسي الذي أعدته للإفطار، وهي عادة ثابتة في المدن القديمة كمدينة القصبة في العاصمة الجزائرية، والسويقة في قسنطينة وميلة شرقي البلاد، وزنقة (السوق) في ولاية البليدة وسط البلاد، وغيرها من أحياء ولايات وهران ومستغانم وتلمسان غربي البلاد، بالإضافة إلى الأحياء السكنية التي تتشابك فيها العلاقات الاجتماعية بين الجيران. وتقول الحاجة خديجة (72 عاماً) إنها ولدت وترعرعت في مدينة الورود البليدة، وكانت تشهد خلال الشهر الفضيل على عادة تبادل الأطباق والأكلات الشعبية بين الجيران، التي كانت تطرح البركة وتزيد من تلاحم الجيران والتقارب في ما بينهم، فضلاً عن وجود صحن لا يعود لبيتها منذ اليوم الأول من شهر رمضان وحتى آخر يوم. فكل ليلة يعود مملوءاً من أحد البيوت بنوع من أنواع الطعام أو الحلويات كهدية. تضيف: "اللافت في الأمر أن ربة البيت لا تعلم من زودها بتلك الهدية لأنها بادرت أولاً بإرسال أحد أصناف الأكل إلى أقرب جاراتها. بدورها، ترسل الأخيرة طبقاً شهياً آخر إلى جارة أخرى وهكذا، فيظل الصحن نفسه يدور بين الجيران حتى صبيحة يوم العيد ليمتلئ مرة أخرى بصنف من أصناف حلويات عيد الفطر".
ونتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية، لم تعد غالبية العائلات الجزائرية تعيد طلاء جدران البيوت احتفالاً برمضان، وهذه إحدى أبرز العادات التي تلاشت بشكل لافت، بعدما ظلت موجودة لعقود من الزمن في العديد من المناطق في ربوع الجزائر، لكن العائلات باتت تعوض ذلك بتزيين الشقق والحرص على نظافة البيت بشكل لافت بسبب الكلفة المالية للطلاء وسط الغلاء وخصوصاً خلال رمضان. ويقول وليد بوحراتي، وهو موظف بشركة الكهرباء والغاز، إن تراجع عادة طلاء البيوت شيئاً فشيئاً خلال شهر رمضان "مرتبط بغلاء المعيشة وارتفاع أسعار المواد الأساسية. فغالبية العائلات الجزائرية تسعى إلى تلبية الحاجات الضرورية لأفرادها خلال الشهر الفضيل، بينما طلاء البيت بات أمراً ثانوياً لأن العملية قد تكلف أكثر من 40 ألف دينار جزائري، أي ما يعادل أكثر من 230 دولار أميركي، كمثال عن طلاء ثلاث غرف في شقة صغيرة، بالإضافة إلى المطبخ والحمام، وهذا يعتبر بالنسبة للعمال الأجراء ميزانية تعادل مصاريف شهر كامل".
بالإضافة إلى ما سبق، تلاشت عادة مسح الأواني النحاسية لدى المحال، واجتماع العائلات اليومي خلال شهر رمضان للاستماع لما يعرف بقصص وألغاز "البوقالة". سابقاً، كانت نساء الحي الواحد يجتمعن في أحد البيوت بالتداول خلال السهرة، ويتسامرن حول إناء البوقالة أو إناء الفأل والحظ الطيب، وهو عبارة عن لعبة لقراءة الأشعار والحكم الشعبية. وبدلاً منها، باتت السهرات أمام شاشة التلفزيون لمشاهدة المسلسلات، أو الاجتماع لأداء صلاة التراويح.
ويعزو البعض تلاشي أو تراجع هذه العادات والممارسات الاجتماعية إلى التغيرات الحاصلة في المجتمع الجزائري، واختلاف الفضاء السكني وأُثره على البيئة الاجتماعية. ويفسر الباحث في التراث الشعبي من جامعة باتنة شرقي الجزائر عبد الكريم سعدون، هذا التلاشي بتوقف انتقالها اجتماعياً. ويقول لـ "العربي الجديد" إن "السكن في المدن العتيقة كان جماعياً تحت سلطة كبار الحي، وكان الناس يشتركون في إحياء المناسبات المختلفة. في الوقت الحالي، لم تعد البيوت متقاربة، ورحل الجيل القديم الذي كان يؤمن بتلك العادات ويقدسها نوعاً ما، وتخلى الجيل الجديد عن اتباعها وانصرف إلى بدائل أخرى مثل مشاهدة القنوات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي". يضيف: "كانت اللمة جزءاً لا يتجزأ من شهر رمضان. أما حالياً، فإن كل فرد منشغل لوحده أمام كم هائل من المسلسلات وعدد من المنصات الإلكترونية". ويرى سعدون أن "خروج المرأة للعمل أبعدها عن المطبخ والتباهي بالأطباق المتنوعة، وأبعدها أيضاً عن تلك السهرات. وهناك عامل لا يقل أهمية، ويرتبط بزيادة الوعي الديني لدى بعض الطبقات في الجزائر بقدسية رمضان وتكريسهم أوقاتهم للعبادة بدلاً من التقاليد المجتمعية والسهرات وتضييع الوقت في الدردشة طوال الليل".