بين التبرع للمدارس، وإصلاح آبار المياه المعطلة، وتوفير الخبز، ودعم القطاع الصحي، وجد سكان محافظة السويداء جنوبي سورية أنفسهم ينفذون أعمال حكومة النظام التي تخلت يوماً بعد يوم عن مسؤولياتها، في وقت تزيد الضرائب بمراسيم رئاسية تصدرها كي تبقى مؤسساتها قائمة.
يقول المدرس المتقاعد كمال اشتي لـ "العربي الجديد": "مساعدة المدارس في تنفيذ عملها بمحافظة السويداء أمر قديم جداً يعود إلى ما قبل الحراك السوري عام 2011، لكنها كانت تحصل بطريقة غير مرئي تحت غطاء أن التعليم مجاني، ثم كشف ضعف البنية التحتية وسقوط الشعارات الرنانة وتدهور الليرة السورية المستور، ولم تعد مديرية التربية قادرة على فعل الكثير حتى على مستوى أوراق الامتحانات، وبات في كل مدرسة صندوق تبرعات، وفي كل قرية وبلدة ومدينة صندوق تبرعات أو مبادرات تساهم في إكمال الطلاب تعليمهم.
يتابع: "وصل الأمر إلى حد تكفل هذه المبادرات بمشاريع بناء وترميم مدارس، كما حصل في بلدة عتيل شمالي مدينة السويداء عام 2018 التي شيّدت مدرستها الثانوية بأموال المغتربين بالكامل، في حين اقتصر دور وزارة التربية على تنظيم احتفال، والاطلاع على المشروع".
ويوضح معتز عزام من أهالي قرية صلاخد التي تقع غربي مدينة شهبا، لـ"العربي الجديد"، أن أهالي القرية بنوا عام 2019 روضة أطفال على قطعة أرض بتكلفة زادت عن 15 ألف دولار لتكون ضمن ملاك مديرية التربية، وتخضع لإشرافها. كما بادروا إلى ترميم المدرسة الابتدائية، وتلبية احتياجات أخرى بينها تأمين مادة المازوت للتدفئة، وتركيب خزان لمياه الشرب، وصولاً إلى جلب أوراق لكتابة أسئلة الامتحانات.
ورغم صغر مساحة محافظة السويداء (5550 كيلومتراً مربعاً)، ما يشكل نسبة 3 في المائة من مساحة سورية، إلا أن نقص المدرسين الحاد وإغلاق عدد من المدارس بسبب عدم وجود كادر تدريسي دفعا المجتمع المحلي في عدد من القرى البعيدة إلى تولي مهمة جلب المدرسين على حسابهم، وتحمّل دفع أجور المواصلات للوكلاء غير المثبتين الذين لا يكفيهم راتبهم ثمن الطعام.
والحقيقة أن جهد منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية أنصب على ترميم الآثار السلبية لتخلي النظام السوري عن مهماته الرئيسية، وفساد ممثليه في مؤسسات الخدمات الأساسية، مثل التعليم والصحة والهاتف والمياه.
ورغم التكاليف الباهظة لتعويض النقص ومعالجة سلبيات الفساد، إلا أن الأهالي وجدوا أنفسهم أمام تحدي البقاء في أماكنهم، في حين كانت مشكلة المياه الدائمة تستنزف أموالهم وسط عصابة من الفاسدين، فانصبت الحلول على المشاركة في إصلاح الآبار ومراقبتها.
وبعد انقطاع خط مياه المزيريب القادم من محافظة درعا، والذي يعتبر المصدر الرئيسي لتغذية مدينة السويداء بالمياه، إثر انطلاق الثورة السورية، بدأ عمل مؤسسة المياه يتركز على تغذية المدينة من الآبار والسدود المحلية قبل أن تسقط تباعاً في دوامة التقنين والسرقة والفساد الإداري، وتصبح أزمة مياه الشرب الأكثر تعقيداً لأهالي المحافظة خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
وفي غياب الحلول وانعدام الثقة بمؤسسات الدولة، انطلقت مبادرات فردية في عدد من البلدات لتلبية الاحتياجات، أهمها في بلدة شقا التي تقع في الريف الشمالي، حيث جرى تجهيز وصيانة أحد الآبار بتكلفة تعادل 7 آلاف دولار، ثم تبنت بلدات أخرى نفس المشروع.
وفي ظل التقنين الكبير للكهرباء ونقص الوقود البديل الذي يؤثر على إنتاج آبار المياه، انطلقت مبادرات أهلية لتأمين الوقود الحر لتشغيل مضخات المياه، وأخرى لربط الآبار بخط الكهرباء غير الخاضع لتقنين. وجرى ربط التيار الكهربائي بآبار مياه بلدة الثعلة التي تقع غربي مدينة السويداء، في أكبر وأسرع مشاريع العمل الشعبي التي نفذت على مستوى المحافظة بمساهمة أبناء القرية ومتطوعين من عمال ومهندسين بإشراف مؤسسة الكهرباء والمياه، بحسب ما ذكرت وكالة "سانا" التابعة للنظام السوري.
وفيما وجد أهالي قرية رضيمة اللوى التي تقع في الريف الشمالي للمحافظة أن تعطل الآبار الثلاثة في قريتهم سيطول اجتمعوا وقرروا إصلاح الآبار على نفقتهم الخاصة، وتعاقدوا مع متعهد غير مرتبط بمؤسسة المياه، ما جعلهم يكتشفون حجم الفساد الهائل والفوارق بين متعهدي القطاع الخاص وأولئك الذين يتعاملون مع سلطة النظام.
ولم يكن الهاتف خارج الحسابات بعد انقطاع الشبكات الأرضية والهوائية عن غالبية الأرياف، بحجة فقدان المحروقات والكهرباء. وفي بلدة عرمان التي تقع في الريف الجنوبي للمحافظة، اشترى مغتربون مولد كهرباء يعمل على المازوت لتشغيل الهاتف الأرضي في ساعات انقطاع التيار الكهربائي، ثم اصطدم هذا المشروع بعد أشهر بتقنين مجحف لمادة المازوت من قبل مؤسسة الاتصالات، ما اضطر الأهالي إلى تشغيل الهاتف بشبكة ألواح من الطاقة الشمسية البديلة، بكلفة تزيد عن 20 ألف دولار، ثم شمل المشروع ذاته بلدات أخرى.
وفي المحصلة، تبقى أعمال المجتمع المدني تتمحور بين شقين، أولهما استهلاكي يتمثل في مساعدات ومبادرات إنسانية تغطي الجانب الأهم من حياة المجتمع الأكثر احتياجاً، والثاني التعويض عن تخلف دور مؤسسات النظام في تلبية الاحتياجات الرئيسية للمجتمع.
وهكذا يكون النظام قد تعمد التخلي عن مسؤولياته وواجباته تجاه المواطنين بحجة الحصار الغربي وقانون قيصر والإرهاب، وقام في الوقت ذاته بترميم مؤسساته من أموال المغتربين والمهاجرين من أبناء المحافظة.