لا تنتهي أزمات النازحين الليبيين، الذين لا تعرف سلطات البلاد المنقسمة على نفسها كم عددهم وأماكن نزوحهم. علاوة على إهمالهم الكامل وتركهم يواجهون مصير آثار النزوح. فكثير من الأسر تعاني تهتكاً في بنيتِها وتُقاوم من أجل الحفاظ على وحدتها، بعد أن عاشت طيلة سنوات من دون خصوصية. ورغم توقُف الحرب في البلاد، إلا أنّ الأمم المتحدة قالت إنّه، حتى الشهر الجاري، لا تزال هذه الظاهرة قائمة، وإنّ عدد النازحين انخفض من 426000 شخص في يونيو/حزيران إلى 392000 شخص حالياً. لكن هذا العدد قد لا يكون دقيقاً بالنسبة للباحث الاجتماعي الليبي عبد العزيز الأوجلي، فهناك الآلاف غيرهم يعيشون في نزوح إلى دول الجوار الليبي القريبة والبعيدة. على الرغم من ذلك، تبدو أوضاع النازحين خارج البلاد أفضل بكثير من أوضاع نازحي الداخل.
يؤكّد النازح من منطقة أوباري جنوب البلاد، إسماعيل الشريفي، لـ "العربي الجديد"، أنّ أطفاله الأربعة عاشوا في فترة نزوح استمرت لأربعة أعوام، قبل أن يعود الاستقرار النسبي لمنطقته في الجنوب الليبي ويتمكن من العودة. ويقول: "إنّ عودتي حتى الآن ليست مؤكدة، فالاتفاقات الاجتماعية سمحت لي بترميم منزلي، مع زيارات متقطعة من حين لآخر إلى أسرتي". لا يزال الشريفي يعيش في سكنٍ استأجره بمدينة سبها، وينتظر إكمال تفاهمات قبلية تسمح للنازحين بالعودة إلى منازلهم، لكنه يشير إلى معاناة أخرى تتمثل في مكافحته من أجل الحفاظ على وحدة أسرته.
ويشرح الشريفي: "إنّ أطفالي اعتادوا على نمطِ حياة لا خصوصية فيه، حيث عشنا طيلة سنوات ضمن مجموعة أسرٍ نازحة. نعيش مع بعضنا البعض وأحياناً نفترق ونلتقي مجدداً". ويضيف: "لم يعتد أطفالي على العيش في منزل يؤويهم وله خصوصية، لذلك لا يجد ابني البالغ من العمر 12 عاماً غضاضة في الذهاب إلى منزل صديقٍ له من دون استشارة والمبيت عندهم". ويؤكّد أنّ هذا النمط من الحياة عاشه طفله طيلة سنوات النزوح وبالتالي يراه أمراً طبيعياً.
ويلفت الشريفي إلى أنّ اصطدام أطفاله بطريقة عيش الأسر الأخرى، شكّل لديهم سلوكاً مناقضاً وسخطاً تجاه الأسرة. ويقول: "أضطر أحياناً إلى قضاء أغلب اليوم مع أطفالي لأحاول أن أغرس فيهم قيم الأسرة ووحدتها، لكنني أفشل أحياناً".
أما وردة النبص، التي لا تزال بعيدة عن مسكنِها في ترهونة، بعد أن هربت منه وتسكن مدينة اجدابيا شرق البلاد حالياً، فتتحدث بامتعاضٍ عن اختراق خصوصيات أسرتها. تقول لـ"العربي الجديد" إنّها نزحت بسبب مشاركة زوجها في القتال ضمن مليشيات حفتر ضد قوات حكومة "الوفاق"، قبل أن يُقتل في إحدى المعارك. وتضيف: "اضطررت للإجابة على أسئلة تتعلّق بتفاصيل حياة أسرتي للجهات الأمنية التي حققت معي، سواء من جهة الوفاق، أو من جهة أجهزة أمن حفتر التي سمحت لي بعد مكابدة بالعيش في اجدابيا". تتابع: "أنا مثقفة وأعلم جيداً أنّ ما تقوم به الجهات الأمنية هو خرق لحقوق الأسرة، لا يوافق عليه القانون الدولي ولا الأعراف المحلية"، لكنّها تلفت إلى معاناةٍ أخرى تتعلق بمجتمع النزوح الذي تعيش في وسطه. وتقول: "في ظلّ مجتمع جديد أضطر إلى الإجابة على أسئلة المتطفلين، والناس التي لا تكفّ عن السؤال بريبة وشكّ عن أسباب نزوحي بعد مقتل زوجي. فوجود امرأة تعيش مع طفلين صغيرين في نظر المجتمع الليبي مدعاة للشك والريبة. لذا أنا مضطرة إلى الشرح والحديث عن خصوصياتي للدفاع عن أسرتي". وتعيش النبص على آمال وئام سياسي منتظر لتعود إلى منطقتها وتعيش في أحضان مجتمع ألفته.
وكانت حكومة "الوفاق" قد قدّرت عدد نازحي الحرب، التي اشتعلت جنوب طرابلس، بحوالي 130 ألف شخص. ورغم توقف الحرب وانتقالها إلى مناطق أخرى، إلا أنّ وزير الدولة لشؤون النازحين والمهجّرين في حكومة الوفاق، يوسف جلالة، أكّد في تصريحات صحافية مطلع الشهر الجاري، أنّ 25 في المائة فقط من نازحي طرابلس عادوا إلى منازلهم منذ توقف القتال.
وفي السياق، يشير الباحث الاجتماعي الليبي عبد العزيز الأوجلي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "ظاهرة النزوح لم تتوقف في البلاد بسبب استمرار حال التوتر والتصعيد العسكري، فانتقال جبهات القتال إلى محيط سرت والجفرة أجبر أُسراً على النزوح من هناك. كما أنّ بؤر التوتر في الجنوب الليبي لم تتوقف عن إجبار أُسرٍ على النزوح لعوامل وأسبابٍ تتعلّق بتناحر القبائل المستمر".
وفي كلّ هذا، يرى الأوجلي أنّ "آثار عيش الأسر النازحة من دون خصوصية ستكون وخيمة في المستقبل". ويلفت إلى أنّ تعرّض الأسر لتفتيش البيوت المستمر مثلاً أو التحقيق لمعرفة أسباب وخلفيات النزوح ستخلق حالة من عدم الاستقرار لدى الأطفال وتصبح نمطاً معتاداً لديهم".
ومن أكثر العوامل المؤثرة أيضاً هي تلك المتعلقة بالتنقل للعيش في أكثر من منطقة تختلف سلوكياتها وتقاليدها. ويقول: "لا تزال كلمة "العائدون" تطارد أسرا عادت من المهجر بعد احتلال إيطاليا لليبيا رغم مرور عقودٍ طويلة على الحدث. السبب أنّ تلك الأسر عاشت في بيئات تختلف عن بيئاتها الأصلية واعتنقت ثقافة الأولى".
ويشير الأوجلي إلى أنّه طالب وزملاء له مراكز البحث في الجامعات الليبية بالإسراع في إعداد خطط وبرامج لاستيعاب الظاهرة والاستعداد لها، تزامناً مع وضع علاجات خاصة باحترام خصوصيات الأسر، بالتنسيق مع سلطات البلاد.