لا شك أن العديد من مدارس أبناء النخبة كانت مؤهلة مباشرة للتعليم الرقمي. فقد تعود التلامذة والطلاب على شروحات كان الكومبيوتر أحد أركانها. وكان يتم استحضار مواد من المواقع وعرضها عليهم، أو تكليفهم بإعداد مشاريع دروس وأبحاث، سواء أكانت أدبية أم علمية. والأهم أن هؤلاء وذويهم وأساتذتهم كانوا على ألفة مع هذه الأجهزة، الفارق يتمثل في أن ما كانوا يحصلون عليه صفياً بات منزلياً.
ما ينطبق على مثل هذه المدارس ينطبق هو الآخر على الجامعات والمعاهد في القطاع الخاص الباهظة الأقساط. أما السواد الأعظم من المدارس والجامعات فقد وقعت عليه عملية إقفال المؤسسات وقوع الصاعقة، لأسباب متعددة بعضها له علاقة بما سبق وتعوده، وبعضه الآخر له علاقة بالمستوى العلمي للأهل والبقاء في البيت والجلوس لساعات أمام جهاز التلفاز أو الحاسوب. وبذلك صارت للبيت وظيفة المدرسة وهو ما لم يألفوه.
في معظم الدول العربية، كانت هذه المرة الأولى التي يضطر فيها العديد من الجهات التعليمية للتحول المفاجئ لنمط تعليمي جديد لم يتم التمهيد له قبلاً. واللافت أن مثل هذا الوضع لم يتم التحضير له، لا على مستوى الأهل، ولا على صعيد البرامج والأساتذة والمعلمين والطلاب الذين عانوا من الإحباط والقلق والتوتر والخوف من فشل التجربة، وبالتالي تحملهم مسؤولية ذلك.
ولعل أول التحديات تمثل في غياب إدراك واقعي لطبيعة التعلم عن بُعد، الذي يتطلب دوراً محورياً للأهل في انتظام وانضباط هذه العملية، إذ ليس من اليسير أن يتخذ الأب أو الأم وضعية المدرس "المساعد" في المنزل الذي أصبحت له وظيفة تعليمية. فقد جرت العادة أن يتولى المعلمون في المدارس شرح الدروس وتكليف طلابهم بمراجعتها في المنزل بمساعدة الأهل أو من دونها حتى. التواجد على مسافة من الأستاذ، والابتعاد عن الصفوف الدراسية جعلا المهام المدرسية مسؤولية عائلية بعد أن أصبح البيت هو المدرسة، وإنما دون هيكلية معروفة ومؤهلات كافية ومهارات للعب أدوار تتطلب عمليات إعداد ومهارات غير متوافرة.
يمكن الحكم بالإجمال على هذا التحوّل ووصمه بالقصور عن أداء الدور المطلوب منه، وهو ما بات يدركه الأهل الذين باتوا يعتبرون التعليم عن بُعد "أفضل من لا شيء"، بالنظر إلى فقدان مقوماته، سواء على صعيد معظم المعلمين أو هم أنفسهم، أو البنية التحتية بالنسبة لملايين الأسر التي لم تألف الإنترنت وأجهزة الحاسوب في حياتها اليومية. لذا، حاول هؤلاء استعادة أبنائهم من هذا "الفخ" إلى التعليم التقليدي الذي يستطيعونه في بعض المواد. وفي الحقيقة، لم يألف التلامذة والطلاب البقاء في منازلهم أصلاً، فقد كان الذهاب اليومي والعودة بمثابة متنفس وفرصة للقاء الأصحاب من طلاب صفوفهم وغيرهم. الآن بات يفترض بهم البقاء في عزلة بيتية قد لا تكون متاحة للكثيرين مع وجود أفراد الأسرة المحجورين عن العمل والخروج إلى العمل والأسواق والمدارس.
والواقع أنه مهما بلغ التطور، لا غنى عن التعليم النظامي، وما زال دور المدرسة والجامعة مطلوباً. إلا أن وباء كورونا فرض على كل دولة أن تنشئ نظاماً تعليمياً إلكترونياً كأداة مساعدة دون أن تنجح في وضع الخطط اللازمة لتنمية المهارات والمعارف الإلكترونية لدى المعلمين وأعضاء هيئة التدريس والأهل.
(باحث وأكاديمي)