بقالة الجمهورية العربية المتحدة... تاريخ يحتضنه سوق واقف
محمد هديب
كل عقد من عقودنا العربية يمكن أن تصفه بالعاصف، بيد أنه في السنوات العشر من خمسينيات القرن الماضي، كان عاصفة "الوطن العربي". لم يكن شرقاً أوسط ولا شرقاً أدنى فقط بل "صوت العرب من القاهرة". هذا الصوت، وصورته الداعية لوحدة العرب كانت لا تنقصها الكاريزما، لذلك اكتسح أثير الإذاعة جغرافيا جديدة قديمة استطاعت خلق لغة عربية واحدة.
خُلق معجم سياسي هو بحق وليد هذا العقد، وكان شعبياً ساحراً قد تنقده جذرياً، بل قد تناصبه العداء، لكنك لا تستطيع محو مكانه الجلي في التاريخ. فقد كانت خطابات جمال عبد الناصر، بحضور عشرات الآلاف، لكن عشرات الملايين من العرب يصيخون السمع عبر الإذاعة.
حين قدم أحمد رضا أبو يوسف إلى قطر في عام 1951، كان عمره 31 سنة، وهو في الأصل من قرية ترشيحا في الجليل الغربي، والتي نكلت بها العصابات الصهيونية براً وجواً، واحتلتها وطردت سكانها في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 1948.
حاله حال الآلاف من اللاجئين الذين يمموا شطر الخليج بحثاً عن رزق يعولهم. حين أسس بقالته لم يكن لها اسم، فحيث تكون بنية المجتمع متواضعة، تكون البقالة بلا لافتة، وتسمى باسم صاحبها "بقالة أبو فلان" أو "بقالة الحج فلان".
في قطر التي صادف لجوء أبو يوسف إليها مرور عامين على تصدير أول شحنة نفط من حقل دخان في عام 1949، بدأت عاصمتها الدوحة تتوسع، وتستقبل وافدين باتوا أكثر عدداً وتنوعاً، وكانت بؤرة المدينة الجديدة هي منطقة مشيرب.
سبعة أعوام مضت قبل أن يتجه أحمد رضا إلى مكتب السجل التجاري، ويطلب تسجيل بقالته باسم "بقالة الجمهورية العربية المتحدة".
وما هي أفريقيا، وما هي آسيا، سوى مرجل حركات التحرر في الخمسينيات. كان "مبدأ أيزنهاور" يعني وراثة الاستعمار الأميركي استعمار فرنسا وبريطانيا، وكان فرانز فانون قد انتهى من كتابه الصارخ "استعمار يحتضر"، وانخرط في الثورة الجزائرية.
تأسيس بقالة في الدوحة للاحتفاء بقيام الجمهورية العربية المتحدة
في يوم 22 فبراير/ شباط 1958، وقع شكري القوتلي وجمال عبد الناصر ميثاق الجمهورية العربية المتحدة. هذا يعني أن أبو يوسف قرر رفع لافتة بقالته قبل 18 يوماً من الإعلان رسمياً عن الدولة الجديدة.
سجلت البقالة برأسمال بالروبية الهندية، وهي العملة السائدة وقتذاك في إمارات الخليج تحت السلطة البريطانية، ولم يكن تسجيلها في هذا الوقت إلا لأن صاحبها المولود عام 1920 في ترشيحا، بحسب بطاقة بالإنكليزية صادرة عن الانتداب البريطاني، كان مخطوفاً إلى هذه القصيدة السياسية التي لم تكن مبالغة شاعر جاهلي يقول "ملأنا البر حتى ضاق عنا"، بل حقيقة على الأرض يؤكد وجودها أكثر، كيان مزروع فصل الشام عن مصر، بل فصل شرق العرب عن غربه.
لا تبدو "بقالة الجمهورية العربية المتحدة" وحدها من أسرتها هذه المعلقة الروحية، فهناك واحدة أخرى في الكويت، بل إن ثمة نادياً تأسس في قطر اسمه "نادي الجمهورية العربية المتحدة". ولدت في هذا الخضم أندية شبابية لا تخطئ العين أصلها قادم من القاهرة، مثل "التضامن"، و"الوحدة"، و"التحرير"، و"العروبة"، و"الأحرار"، و"الكفاح"، و"النصر" و"النجاح".
توفي أحمد رضا أبو يوسف عام 1989، وورث البقالة ابنه رضا، والذي توفي قبل عامين بفيروس كورونا عن عمر 73 سنة، وبعد 64 عاماً تحت هذا الاسم، يديرها الحفيد، وهو يحمل اسم الجد المؤسس.
فتح لنا الحفيد أحمد رضا ما تيسّر من أرشيف العائلة، ومن ذلك عملات معدنية ورثها عن جده، وهي من فئة العشرة قروش صادرة عن الجمهورية العربية المتحدة.
وبينما بقيت البقالة ترفع لافتة الوحدة، كانت الانكسارات العربية تتوالى حتى جاءت النكسة لتجرح أول ما تجرح كرامة المعجم، حتى أن كثيرين لا يرون نكبة 1948 سابقة كرونولوجياً على سنة 67. العمود الفقري العربي انكسر في حرب الأيام الستة، وبدأ تاريخنا من هناك.
كانت أم كلثوم عقب النكسة بلحن بليغ حمدي تنادي في "سقط النقاب": "لا يا عدوّي يا نصيراً لعدوّي"، بما يشير إلى أن المشروع العربي الناصري يرد على المتهمين الداخليين باتهام.
بيد أنّ صاحب البقالة الذي اختار لها الاسم قبل بزوغه رسمياً، وقبل فشله، لم يكن معنياً بسِفر السياسة ودهاليزه. إنه فلسطيني شرد مع أهله من قريتهم إلى لبنان، وسورية، والمملكة الأردنية التي حمل جنسيتها. وفي حاضنة عربية رسمها "سايكس- بيكو" بالقوة، لم يكن في وعيه إلا أن يرى الأرض "بتتكلم عربي".
يخبرنا الحفيد أحمد رضا أنه عقب انتقال البقالة إلى سوق واقف، عندما أنجزت قطر برنامج إعادة ترميمه وتوسيعه في المرحلة الأولى عام 2006، مر أمير دولة قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة، ورأى المقر الجديد للبقالة، التي كانت لافتتها عبارة عن لوحة خشبية، فأوعز بإعادتها كما كانت على مدار أكثر من ستة عقود في شارع عبد الله بن ثاني.
اليوم، إذا عبر المارون ولحظوا "الجمهورية العربية المتحدة" قد يستغربون، ويسألون غيرهم عن هذا المسمى، وقد يضطرون إلى فتح "غوغل". هذا ما لم يعشه أحمد رضا الجد وهو يرفع الاسم عالياً ببساطة كما كانت تقع الخسارات العربية ببساطة.
تابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
