مع بداية ظهور فيروس كورونا في الصين وانتشاره في أنحاء البلاد مطلع عام 2020، انتهجت بكين سياسة مشددة لمكافحته عُرفت بـ "صفر كوفيد". وكان لهذه السياسة الفضل في السيطرة إلى حدّ كبير على الفيروس، في وقت كانت بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية تقف عاجزة أمام الجائحة، وبلوغ أعداد الإصابات اليومية أرقاماً قياسية.
لفت نجاح الصين حينها أنظار العالم، وألهمت تجربتها الكثير من الدول، لكن كان يصعب عليها انتهاج نفس السياسة وتطبيق هذه الاستراتيجية، بسبب صعوبة إلزام السكان الامتثال لإجراءات صارمة، مثل فرض حجر صحي على ملايين السكان وإغلاق مدن بكاملها لأسابيع.
دفع ذلك البعض إلى السؤال عن سر نجاح التجربة الصينية، وبرزت تساؤلات مثل: كيف تمكنت الصين من اتباع سياسة "صفر كوفيد" أكثر من عامين؟ وما الذي يدفع 1.4 مليار مواطن إلى الامتثال التام لكل ما يصدر عن سلطات بلاده التي تحكمها سياسة الحزب الواحد منذ أكثر من سبعة عقود؟ ولماذا لم تسجل أي خروقات لهذه السياسات على مدار فترات تنفيذها؟
في المقابل، أرجع مراقبون ذلك إلى طبيعة النظام الشمولي في الصين، وعقود من التدجين الأيديولوجي الذي انتهجه الحزب الشيوعي لجعل الشعب أكثر استعداداً للانصياع والطاعة، بينما رأى آخرون أن الأمر يتعلق بجذور ثقافية تعود إلى تعاليم الفيلسوف الصيني الشهير كونفوشيوس، التي تحتل فيها مفاهيم الولاء والطاعة مكانة عالية.
تاريخياً، حصل آخر عصيان مدني شهدته الجمهورية الشعبية الحديثة عام 1989، أي قبل أكثر من ثلاثة عقود، حين تجمع مئات الآلاف من المواطنين في ميدان تيان آنمن بالعاصمة بكين احتجاجاً على سياسات الحكومة ولرفض قمع الحريات ومظاهر الفساد داخل الحزب، قبل أن تقرر السلطات فض هذه التجمعات الشعبية بالقوة، ما أدى إلى مقتل آلاف المواطنين.
يسود اعتقاد بأن الإفراط في استخدام القوة لفض الاحتجاجات حينها، حمل رسالة إلى الشعب تفيد بأن أي محاولة مستقبلية للخروج أو التمرد على سلطة الدولة سيكون ثمنها باهظاً، وهو الأمر الذي شكل ضمانة أمنية للحكومات المتعاقبة في ما بعد، حيث لم تشهد البلاد منذ ذلك الحين احتجاجات شعبية واسعة النطاق، رغم أن مظاهر الفساد لم تتراجع داخل الحزب، بل على العكس تماماً، فخلال العقد الأخير جرى ضبط وعزل مئات من القيادات الحزبية بسبب تهم مختلفة تتراوح بين استغلال المنصب والتكسب غير المشروع (شن الرئيس الصيني شي جين بينغ، منذ بداية حكمه عام 2013، حملة كبيرة لمكافحة الفساد داخل الحزب والدولة طاولت قيادات من الصف الأول).
إذن كيف تحوّل أكبر شعوب العالم من ناحية تعداد السكان إلى مجرد أداة طيّعة في يد الدولة؟ يقول الناشط الحقوقي المقيم في هونغ كونغ، جيانغ براون، لـ"العربي الجديد": "لم تكن الصين تحتاج إلى قمع الاحتجاجات الشعبية عام 1989 لردع الشعب، لأن الأمة مدجّنة منذ عهد الزعيم الراحل ماو تسي تونغ، الذي استخدم الأيديولوجيا الحزبية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي لجعل الصينيين طيعين بدرجة كافية لتمرير وتنفيذ أفكاره وسياساته، مثل: "القفزة الكبرى إلى الأمام" التي هدفت إلى تحويل البلاد من الزراعة إلى الصناعة خلال زمن قياسي، وكذلك الثورة الثقافية التي هدفت إلى تصفية خصومه داخل الحزب بحجة محاربة الإقطاع والرجعية.
يضيف أن "الكثير من الخرافات التي أثيرت حول شخصية ماو، كان الشعب يصدّقها في عهده. وأشار إلى قصص ربطت الزعيم الصيني الراحل بقدرات خارقة، مثل القدرة على السباحة بسرعة لا يتصورها عقل ومنطق، والحصانة ضد الموت، والفرد الذي لا يخطئ قولاً وفعلاً، لافتاً إلى أن هذا الحدّ من عبادة الشخصية ليس سوى نتاج تدجين أيديولوجي، تحوّل معه الشعب إلى عجينة يشكلها الحزب كما يرغب ويشاء".
من جهته، يقول أستاذ الدراسات الاجتماعية في جامعة صن يات سن، وي لي فنغ، لـ"العربي الجديد"، إن "طاعة الشعب الصيني ليست عبودية ولا تتناقض مع قيم الحرية، والامتثال للقواعد العامة في الصين لا يجب أن يُربط بالحزب، لأن ثقافة الانضباط تعود في الأصل إلى عهد كونفوشيوس (551-479 ق م)، بينما تأسس الحزب الشيوعي الصيني عام 1921".
يضيف: "تدعو تعاليم كونفوشيوس إلى الولاء المطلق، ليس فقط على مستوى الحاكم والرعية، بل أيضاً على مستوى الأسرة، إذ يجب على الابن طاعة أبويه، كما يجب أن يطيع العامل ولي نعمته، وهي سلوكيات لاتزال سائدة في الصين.
وقد ساهمت ثقافة الانضباط إلى حدّ كبير في نجاح الصين بفرض سيطرتها على الوباء بخلاف الوضع في دول أخرى. وهذا محط فخر واعتزاز بالثقافة الصينية، والحديث عن قبضة أمنية وانتهاك لحقوق الإنسان ليس سوى نسج غربي لمناكفة الصين ومحاربة نجاحاتها وجهودها الدولية في مكافحة الوباء.
وكانت منظمات حقوقية قد وجهت اتهامات لبكين بانتهاك حقوق الإنسان من خلال فرض حجر صحي على ملايين السكان، وممارسة رقابة مشددة باستخدام الكاميرات لتتبع حركة الناس وضمان عدم مغادرة أماكنهم، وكذلك إجبار المواطنين على تحميل تطبيقات حكومية على هواتفهم المحمولة لتحديد موقعهم الجغرافي. واعتبرت أن هذه الإجراءات تنتهك حرية الأفراد وتستبيح خصوصيتهم.