تتقدم أحزاب اليمين الشعبوي وتلك المتطرفة في الانتخابات الأوروبية، البرلمانية والولائية. فبعد الحضور القوي في ألمانيا وفرنسا وبولندا والمجر وإيطاليا، حقق حزب الحرية الهولندي بقيادة المتطرف غيرت فيلدرز، المعروف بمعاداته للمسلمين واللاجئين، نتيجة وصفت بالمدوية في مواجهة الأحزاب التقليدية مثل الاشتراكي والخضر، وبات يحظى بأكبر تمثيل شعبي في البرلمان.
وعلى وقع الخشية من التمييز أو تعرّض الأشخاص الذين يحملون أصولاً أجنبية للتهديد أو الإهانة، استعرض خبير الشؤون الأوروبية جوناثان سلابين، وأستاذة نظريات وتاريخ الثقافة السياسية والاجتماعية في جامعة كيل الألمانية، باولا ديهيل، مع موقع "20 دقيقة" الإخباري، بعض أسباب بروز اليمين الشعبوي.
واعتبرت ديهيل أن تقارب هؤلاء مع الناخبين ظهر بفعل الأزمة العميقة بين المواطنين والحكومات، فعدد كبير من الأشخاص يشعرون بشكل متزايد بأن مشاكلهم لم تعد محط اهتمام الأحزاب العريقة، وأنه ليس لديها القدرة على تحسين أوضاعهم أو تقديم مزيد من الخدمات، خصوصاً مع ارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 18 في المائة منذ بداية الحرب الأوكرانية، وتراجع الإنفاق على الخدمات الاجتماعية في ظل موجات التضخم. مؤكدة أن كل ذلك "تسبب في موجات من الإضرابات، كان آخرها لسائقي القطارات، وانتفاضة المزارعين التي استغلها وشارك فيها اليمين الشعبوي، وحركات احتجاجية ضد رفع سن التقاعد".
وتضيف ديهيل أن "قادة اليمين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، عبر مجاهرتهم بأنهم يريدون شعباً متجانساً، وأنه يجب حظر بقاء الأقليات، وفرض قيود على غير المسيحيين، ويروجون أن الشعوب الأوروبية يتم تبديلها بأقليات غير أوروبية أدنى، وينتشر بين أفراد اليمين المتطرف رأي أن هذه المجموعات من المهاجرين لا تنتمي إلى المجتمع، ولا ينبغي أن تتمتع بنفس الحقوق، وقد وصف النائب عن حزب البديل اليميني في البرلمان، روجر بيكامب، المهاجرين بأنهم غرباء عن الثقافة الألمانية، وجاؤوا ليحلوا محل السكان الأصليين".
بدوره، اعتبر جوناثان سلابين أن "الناخبين لا يختارون بالضرورة أفكاراً يمينية، بل إن هذا يعد رد فعل، أو نقمة على سياسات الحكومات القائمة، وغالباً ما تكون لصالح المعارضة اليمينية التي تقدم نفسها كمنقذ للبلدان من الهجرة وسياسات المناخ، وتزعم قدرتها على تحقيق العدالة الاجتماعية، في ظل اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في أوروبا. علماً أنه قبل أسابيع، انتفض الشارع الألماني ضد طروحات لحزب البديل، كانت تدعو إلى طرد ملايين الأجانب من البلاد، بمن فيهم من يحملون الجنسية الألمانية".
وشددت ديهيل على حقيقة أساسية مفادها أن "الأحزاب الحاكمة لم تعالج مسألة إعادة توزيع اللاجئين بين دول الاتحاد الأوروبي، وتتعرض دول مثل ألمانيا وهولندا، والدول الواقعة على الحدود الخارجية للاتحاد مثل إيطاليا، إلى ضغوط بسبب تزايد المهاجرين، وهذا ما يحاول الشعبويون المتطرفون الاستفادة منه، وصولاً إلى مطالبتهم بإغلاق الحدود في وجه المهاجرين".
ويشدد سلابين على تعدد أزمات الأوروبيين، ومن بينها عدم الرضى عن سياسات الهجرة، وإجراءات مكافحة تغير المناخ، والحروب والصراعات، مثل الحرب في أوكرانيا التي دفعت الناس إلى الانزلاق نحو المتطرفين من اليمين، ويضيف: "هؤلاء يقدمون حلولاً بسيطة للأزمات، لكن لا يمكنهم تنفيذها، خصوصاً في أزمة الهجرة السرية التي تعتبر من أبرز المشاكل التي لا يمكن لأي بلد أوروبي أن يحلها بمفرده".
ويعتبر الباحث الاجتماعي لورنس مايستر، أن الشعبوية غالباً ما تعتمد على العواطف أكثر من الحقائق، وتستغل الأوضاع الاجتماعية للمواطنين، وتخلق صورة العدو العاطفي، وهو غالباً من المهاجرين، أو تنامي الإسلاموفوبيا، كما هو الحال في سويسرا وألمانيا، ويؤكد أنه لمواجهة هذه الدعاية المبالغ فيها والمشحونة، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، "يجب أن تتعاطى الحكومات بشفافية حتى يتمكن الناس من فهم القرارات والسياسات، والتغلب على الانقسامات الاجتماعية، ولهذا فإن التواصل بلغة واضحة وواقعية يعد أمراً ضرورياً. تناقضات اليمين الشعبوي المتأصلة، ووعوده المفرطة بتحقيق أمنيات السكان عند الوصول إلى السلطة يمكن أن تكون في كثير من الأحيان أكبر نقاط ضعفه، ومن واجب الديمقراطيين الأوروبيين فضح هذه التناقضات، والتشديد على أن التقدم الحقيقي يأتي من خلال التعاون والحوار بين جميع أصحاب المصلحة".
أنجزت الباحثة في علم الاجتماع، دوريت غيفا، العديد من الدراسات عن اليمين الشعبوي، وترى أن صورته الأحدث أصبحت أكثر "تأنيثاً"، وتتحدث زعيماته عن العائلة والقيم المحافظة من دون إقصاء الآخر في محاولة لخلق صورة تخالف صورة الاشمئزاز الراسخة ضده تبعاً لخطاباته الحادة، وأن هذه استراتيجية لتوسيع قاعدة الناخبين، وتتبع جورجيا ميلوني في إيطاليا، والتي تظهر الاهتمام بالرعاية والحماية جنباً إلى جنب مع سياسة دولة الرفاهية.
وشكل فوز حزب الحرية الهولندي بأقوى تمثيل شعبي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، انتصاراً معنوياً لليمين الأوروبي، لاسيما وأن عوامل الدفع الأساسية كانت جعله الكراهية للإسلام وسيلة لحشد الناخبين، ومواصلته خلال الحملة الانتخابية التحريض ضد الحجاب، والدعوة إلى حظر المساجد والمدارس الإسلامية في أنحاء البلاد، وسحب تصاريح إقامة اللاجئين السوريين، وترحيلهم بزعم أن أجزاء من سورية أصبحت آمنة. كل ذلك، مع بروز أصوات مؤيدة في أوروبا لتشكيل حكومات يمينية تأخذ مخاوف المواطنين على محمل الجد.
في فرنسا، تصاعد نجم زعيمة التجمع الوطني ماري لوبان خلال السنوات الأخيرة بشكل مضطرد، وبحكم نظام انتخاب الرئيس بشكل مباشر من الشعب، أنقذت جولات إعادة الانتخابات البلاد من وجود رئيس يميني في قصر الإليزيه. وفي إيطاليا، فاز حزب "فراتيلي ديطاليا" قبل عام بالانتخابات بأصوات أولئك الذين يرفضون أن ترسو قوارب المهاجرين على شواطئهم، بعد أن شعروا بأنهم متروكون من جيرانهم الأوروبيين، لتصل جورجيا ميلوني إلى سدة الحكم، وقد حاولت إيطاليا بعد ذلك جعل قواتها البحرية تنفذ حصاراً على سواحل شمال أفريقيا، لكن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان منعت ذلك.
أما في ألمانيا، فتضع الاستطلاعات حزب البديل اليميني في الطليعة في ثلاث ولايات، هي سكسونيا وبراندنبورغ وتورينغن، والتي من المقرر أن تجري فيها انتخابات برلمانية ولائية في خريف 2024، فضلاً عن حلوله ثانياً على مساحة البلد كله خلف الحزب المسيحي الديمقراطي، في مقابل تراجع ملحوظ لأحزاب الائتلاف الحاكم الذي يضم الاشتراكي الديمقراطي والخضر والليبرالي. ويسعى البديل من أجل ألمانيا للوصول إلى السلطة في الانتخابات البرلمانية العامة المقررة في عام 2025، والحصول على مزيد من المقاعد في برلمان الاتحاد الأوروبي في الانتخابات الأوروبية يوم 9 يونيو 2024.
وفي المجر، هناك رغبة واضحة لدى رئيس الحكومة زعيم حزب "فيدس" اليميني الشعبوي، فيكتور أوربان، ببقاء بلاده خالية من المهاجرين، ومن كل الأشخاص الذين لا يتناسبون مع تعريفه الخاص لـ"أوروبا المسيحية".
وحول ما يربط كل هذه الأحزاب الشعبوية، وإلى أي مدى هم يمينيون، تخلص الأكاديمية باولا ديهيل، إلى أن "الجهات الفاعلة داخل اليمين الشعبوي باتت أقرب إلى بعضها البعض، والعديد من مقترحاتها أضحت مقبولة بين جميع الأطراف، وأهمها ما يخص سياسات الهجرة، وإجراءات اللجوء".