المسحراتي قاسم حامد... بهجة رمضان في مخيم برج الشمالي
يرتبط شغف اللاجئ الستّيني قاسم حامد، المقيم في مخيم برج الشمالي للاجئين الفلسطينيين في جنوبي لبنان، بعمله الموسمي، إذ يحمل صفة "المسحراتي" خلال شهر واحد من العام. على مدار ساعتين، يدور في أرجاء المخيم، قاطعاً حاراته وزواريبه الضيقة، مستعيناً أحياناً بمكبر للصوت، لإيقاظ الأهالي لتناول وجبة السحور.
يقول حامد (61 سنة)، لـ"العربي الجديد": "أحفظ أسماء جميع أهالي المخيم؛ كبارهم وصغارهم. أبدأ بالنداء باسم الحارة، ثم على أطفال الحارة، ثم على كبار السن، وهكذا حتى يطلّون من الشبابيك، أو ألمح إضاءة الغرف التي تعني أنهم استيقظوا".
وُلد العم قاسم في لبنان بعد النكبة بأعوام قليلة، وعائلته من صفد في الشمال الفلسطيني المحتل، وهو يواظب على إيقاظ أهالي المخيم في شهر رمضان منذ 14 عاماً. يقول: "أقوم بهذا الدور من تلقاء نفسي، وحباً لمرضاة الله، وموعظة للناس في الشهر الكريم. أواصل تأدية هذا الدور بطيب خاطر، فأنا أزرع بهجة رمضان، ولا أغالي إن قلت إنه إذا ما خرجت للتذكير بالسحور يكون المخيم حزيناً. هذا شهر الفرح، ففيه أنزل الله القرآن الكريم هُدى للناس، وفيه تكثر الطاعات، وعلّمنا رسولنا أن نستقبله بالبهجة، كما أننا رغم اللجوء شعب يحب الحياة".
يبعد مخيم برج الشمالي ثلاثة كيلومترات إلى الشرق من مدينة صور في جنوب لبنان، وتقدر مساحته بنحو 134.600 متر مربع، ويقطنه 19.500 لاجئ تقريباً، حسب أرقام وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وعلى الرغم من أن عدد اللاجئين في المخيم كبير، إلا أن المسحراتي قاسم حامد يحفظ جميع الأسماء؛ يبدأ عند دخول الحارة بترديد العبارات المأثورة مثل "يا نايم وحد الدايم"، و"قوموا لسحوركم. جاء رمضان يزوركم"، ثم يبدأ بالتخصيص، فينادي على الأشخاص بالاسم، فيقول "يا أحمد وحد الدايم"، أو "يا عبد قوم".
يوضح حامد: "أكرر أحياناً أناشيد وتهليلات دينية ووطنية، وأتفاجأ بأن الأطفال الصغار يحفظونها، ويخرجون من بيوتهم ليرددوها معي، ورغم أن بعضها صعبة، إلا أنهم يحفظونها، وعندها أفرح من كل قلبي". يستدرك: "أحياناً أنشد أناشيد حزينة، ويكون ذلك لحزني، أو بسبب الأوضاع المعيشية السيئة، أو ما يجري في فلسطين. تُشعرني بالراحة والسكينة، فكأنها نوع من تفريغ الغضب الداخلي، وربما يتفاعل الناس معي، لكنهم يستمرون في الفرح. حين أقول الأناشيد الوطنية، لا سيما إن كان هناك شهداء في فلسطين، أو اقتحامات للمسجد الأقصى، تتحول الأمور إلى تظاهرة شعبية في وسط الليل".
ينتظر النائمون، وحتى المستيقظون، مرور المسحراتي قاسم حامد قرب بيوتهم، إذ أصبح صوته يعني اقتراب موعد الإمساك. يشرح حامد ضاحكاً: "بعض الأطفال يصحون قبل وصولي، وخلال دقائق يتجمعون من حولي، ويتبعوتني خلال التجوال في المخيم، فيما الكبار يطلّون من شبابيك بيوتهم".
تقول اللاجئة سعاد اليوسف، وهي من سكان مخيم برج الشمالي، إن "المسحراتي هو روح رمضان، وهو صانع البهجة، ويذكرنا بالفرح بدلا من الالتقاء في الأحزان، والتفكير في ضيق الحال، كما يذكرنا دائماً بأن رمضان هو شهر الخير والبهجة، ومعه يكون الشهر أحلى لنا كلاجئين. كنت أنتظره حين كنت طفلة، واليوم ينتظره أولادي الأربعة، وهم يحبونه كثيراً".
تفاجئ مريم (9 سنوات) أمها بترديدها أنشودة دينية: "مصطفى مصطفى، منبع للصفاء، سيد الأنبياء، مشعل في الوفا، كان في عطفه، لليتامى دفء، حن قلبي له، فاض شوقا إليه". تقول إنها حفظتها من خلال المسحراتي، كما أنها تؤديها بطريقته.
وتقول فاطمة محمد: "ابني اسمه علاء الدين، ويناديه المسحراتي: يا علاء الدين قوم على سحورك. قوم يا غالي يا حبيبي. وابني يفرح كثيراً، وينزل دائماً، ويتجول معه". وتلفت إلى أن عائلتها لا تضبط منبهات الهواتف "جميعنا نستيقظ مع المسحراتي، بل وأحياناً ننتظره. أجواء رمضان تبدو أكثر جمالاً في وجوده، خصوصاً مع هذه الأوضاع المعيشية الصعبة، والأزمات المستمرة منذ انهيار سعر الليرة في مقابل الدولار الأميركي، وارتفاع أسعار المواد الغذائية".
ويعيش نحو 93 في المائة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تحت خط الفقر، بحسب تقرير وكالة "أونروا" الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وفاقم الانهيار الاقتصادي من سوء ظروفهم المعيشية، مع تراجع قدرتهم الشرائية، وعجز الغالبية عن توفير أبسط الخدمات الأساسية، بما في ذلك الطعام والرعاية الصحية، في حين يحظر على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان العديد من الحقوق الإنسانية، وفي مقدمتها العمل والتملك.
ويظهر تردّي الوضع المعيشي واضحاً داخل مخيم برج الشمالي، إذ خلت حاراته هذا العام من زينة شهر رمضان، وهي عادة ظل يمارسها اللاجئون منذ تهجيرهم من فلسطين. إلا أن الوضع الاقتصادي منعهم من رفع الزينة، كما يقول اللاجئ عماد أحمد، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "في كل الأعوام السابقة، كانت كل حارة تجمع المال لتزيين الشوارع احتفالاً بقدوم شهر رمضان، لكن بسبب الوضع المعيشي الصعب، وغلاء الزينة، قررنا عدم التزيين هذا العام، ونشكر الله أن المسحراتي قاسم حامد يعوض علينا فرحة رمضان".
انعكس ضيق الحال على المسحراتي أيضاً. يقول: "في أعوام سابقة، كنت أرتدي عباءات خاصة برمضان، لكن بسبب غلائها، أصبحت أستعين بقميص أبيض. الثياب ليست مهمة، وإنما المهم هو عمل الخير. كما أن كثيرا من الناس الطيبين يساعدونني، فإذا تعطل مكبر الصوت مثلاً، يتطوع كثير من أهالي المخيم لإصلاحه".
يرفض المسحراتي حامد اعتبار ما يفعله مهنة. مؤكداً أنه يمارسها "حباً في الله ورسوله"، ويلفت إلى أنه بسبب ضيق الحال، فإن أهالي المخيم يدفعون له أموالاً رمزية، لكنه رغم ذلك سعيد بها، لأن هدفه نشر البهجة بينهم، ومساعدتهم على السحور الذي يعينهم على الصيام".
كما يرفض التسليم بأن دور المسحراتي سوف يزول مع الوقت، موضحاً: "المسحراتي أحد أهم عاداتنا وتقاليدنا، والشعب الفلسطيني متمسك بها، كما أنه مرتبط بشهر الخير والبركة، ما يجعل المسحراتي باقيا إلى يوم القيامة، لأن حب الله سيظل باقيا فينا".